بقلم القاص والروائي السوري نبيه اسكندر الحسن – رواية ” الاحتجاج ” – ج 4
– رواية ” الاحتجاج ” بقلم القاص والروائي السوري نبيه اسكندر الحسن حمص سوريا – ص – ب – 5121 جوال 0966326100 نبيه اسكندر الحس
الاحتجاج رواية ( يبكي ويضحكُ لا حزناَ ولا فرح ..كعاشقٍ خطَ سطراً في الهوى وم ..من بسمةِ النجمِ همسٌ في قصائدهِ ..ومن مخالسةِِ الظبي الذي سنح ..قلبٌ تمرسَ باللذاتِ وهو فتى كبرعمٍ لمستهُ الريح فانفتح مالي الآقاحيةِ السمراءِ قد صرفت عنا هواها أرقُ الحسنِ ما سمح لو كنتِ تدرينَ ما القاهُ من شجنٍ لكنتِ أرفقَ من آسا ومن صفح ) ظهر الغضب على وجهها ،رحلت مع الأحلام في إرهاصات اللذة ،مستسلمة لرغبة أحالتها إلى شحرورة ،خلخلت سكينة هاجعة ،وزحف الضوء باندفاع الوقت حتى إذا ما وصل نهديها ،يستيقظ الزمن المتواطئ مع شعاع يمارس زحفه فوق تضاريس جسد ،لا يعرف الوصال .منذ زمن بعيد ،كانت تدور حول نفسها على إيقاع طبل غجري ،وإذ ما انتشر الضوء ،يملأ أركان الغرفة ، ينفث آخر قبس من نغمة الصباح ، فاجأتها صاعقة لطيف رجل يهيج روحها من كمد الاغتراب ،فتناديه والصبوة تنفلت من زمامها، آتية على اللحظات ،يؤكد ذلك كله ذبول واستسلام لجسد عطش ،وقبل التئام الحلم ،يحدث شرخ في الموقف ،تشعر كأن طيرا سري بجناحين فضيتين ،يضرب على زجاج النافذة ،فقالت : – هل لديك فكرة عن مكان تواجد علوان ؟. – نعم . – هيا لنذهب إليه الآن . قفزت عن السرير ،وهي تقبض على صدرها ،فأسرعت تحضر نفسها للقاء رجل لا تعرفه،حاولت أن تتصل مع الماضي . تذكرت مدرساتها اللواتي تنبئن لها بمستقبل رفيع المستوى إن بقيت مثابرة على تفوقها ،وحين نالت الشهادة الثانوية ،تقدم “علوان ” وطلب يدها من زوج أمّها الذي وافق على زواجها دون أي تردد .ولعبت الأقدار دورا كبيرا في ذلك .قبل أن يأخذ طفلها الرضيع ،كانت تعيش بلا غاية ،تتأمله في إعجاب ، لم يكن متحمسا لذلك ،لكنه استطاع على إغوائها ،وخانتها خطاها فضلت الطريق ،وتجرعت كأس الألم . كان يوما من أيّام الثلج البارد ،كانت المحكمة تزدحم بالمراجعين ،لاحت نظرة خوف على محياها ، تقف في قفص الاتهام ،ناجت خيالها ،جاءها ” صابر” يرتدي ثوبا أسود ، يتطلع بنظرات لا تخلو من اللباقة ،همست له ببضع كلمات قالت : – من الكرم أن تدافع عني بدون مقابل . – أمن الممكن أن نتحدث بصراحة ؟. – نعم ،أنا مستعدة . – تفضلي … – قسما لا أعرف غير علوان . – هذا رائع . كانت بنيتها تضفي عليها مسحة من النضج والصدق ،فرأى الإعجاب يلمع في عينيها،حدثها بلهجة مرحة ،جعلتها تضع النقاط على الحروف ، روت له كل ما حدث بصدق ،منذ أن هجرها “علوان ” في أيّام الشدة ،وتركها عند زوج أمّها في قريتهم دون أن تذكر اسم القرية ،لم يقم “علوان ” أي اعتبار للجنين الذي تحرك في أحشائها ،كان الجنين يركلها في خاصرتها اليسرى . انتعش صدرها بالأمل ،حين تهلل وجهه بالفرح ،ربما لأنه سيدافع عن متهمة أحس أنها بريئة ،أدركت أنه مخلص وثاقب الرأي ،أحست أن قلبه مليئا بحب المغامرة ،كانت مرهقة تحت عبء قضية ظالمة ،حين أخذت عيناه تبرقان ،وهي في قفص الاتهام ،أثار دفاعه ضجة أمام القضاة ،أجهد نفسه ليخفف عنها مدة الحكم ، لكن ” علوان ” قد حبك التهمة بدهاء ،قرنها بشهود ،فصرخت : – يا لآلام بني البشر . – اعذريني . طرق سمعها أنين خافت ،أعادها إلى صوابها ،أسرعت إلى سيارتها الفارهة ،اندفعت بسرعة هائلة إلى جوف المدينة ،غدت كمن يبحث عن شيء ضاع في بحر ،وجدت نفسها في شارع مكتظ بالباعة والمشردين،فكلمت ذاتها :” أليس الأمر مؤلم “؟!. اتجه الناس إلى محطة حافلات تشعبت مسالكها ،كتشعب حبال الضوء في العتمة ،طالعت الوجوه الصامتة ،تجمد ما يجول بخاطرها ، لم تتوقف ،لقد اجتازت مبنى نقابات العمال ،سرحت في صدى الذكريات قال زوجها الثري : – لك ثروتي . – وورثتك ؟. – أعطي كل ذي حق حقه . توقفت قرب سوق الدواجن ،ترجلت من السيارة ،راحت تشق حشود الناس ،وقع بصرها على صبي يبيع الدخان ،نظرت إليه ،قرأت في ملامحه أشياء وأشياء ،ثمة عينان في وجه يشبه هالة القمر ،ملطخ بنقاط سود ،يرتدي ثيابا رثة ، لم يعرف وجهه الماء منذ الشتاء المنصرم ، ذكرها بطفلها ” فادي ” وقف أمامها : – كرمى لله . دفع إليها علبة الدخان .ناولته قطعة نقدية ،نظرت إليه بعطف ،رأت في وجهه أسرارا ذكرتها بوجه ولدها الذي غاب عنها ولم تره منذ أن لفق زوجها لها تهمة ما أنزل الله بها من سلطان ، كادت تنسى ملامحه ،هزّت رأسها بحزن : – هل يمكنني رؤيتك ثانية ؟. – لا سأذهب إلى أمي . – أين هي ؟. – في البيوت البائسة . – جئني بها . – مريضة . – ما هو مرضها ؟. – لا أدري . – ألم تذهب إلى الطبيب؟. – نحن لا نعرف الأكابر . – خذني إلى بيتكم . – إن شاء لله . – غدا .. حشر الصبي القطعة النقدية في جيبه بعد أن تفحصها ،وراح يشيعها بناظريه ،عندما عبرت من أمامه ،أحست أن وجوه الباعة الصغار كوجه ولدها ،اكتشفت سرّ ميولها لهذه الطفولة المعذبة ،راحت تعيد صورة بعيدة في ذاكرتها ،فأسرعت إلى سيارتها ،جلست أمام المقود ،تناولت الحقيبة ،أخرجت بعض الصور ،ثمة صورة لرضيعها على صدرها ،تفرست في الصورة تفرس من سينقش الملامح في وعاء الذاكرة ،وصورة ثانية كان الطفل يلتهم حلمة ثديها.ركزت عيناها في وجهه كمن ينبش الذكريات من الركام ، خيم الصمت ،وانحدرت الدموع ،فانهالت على رأسها شلالات من ألم الفراق ،تذكرت ذلك اليوم المشؤوم ،لقد تركها “علوان ” تعاني من الحاجة في قرية تقع على خط المطر .ومازال الجنين في أحشائها يجهز نفسه لرؤية النور .أدارت إبرة المذياع : ( يا صاحب الوعد خلي الوعد نسيانا ). كانت الجدران ترجع صدى صوت ” فادي “،يبدو لم يعرف الطفولة ،هكذا أخبرها قلبها ،ويؤكد عقلها ذلك ،ينبغي عليها أن تعيده إلى حضنها مهما كان الثمن ،جعل الأمل وجهها يشع في المدارات ،ستعمل قصارى جهدها لتستعيد طفلا ابتلعه الضباب . من بين الوجوه تخيلت وجه أمّها التي قضت قهرا على فراقها ولم يكن بوسعها أن تفعل شيئا من أجل براءتها ،ومرّ طيف زوج أمّها من أمام ناظرها ،ليذكرها يوم جاءت تعتذر عن جرم لم تقم به ،صفق الباب بوجهها قائلا : – نسيت إن كان لي بنتا اسمها ماجدة . راحت تسترجع أيّاما ،غدت أسود من الليل ،لكن ثمة سجينة اتخذتها صديقة ،قدمت النصائح دون حساب ،ومازالت تذكر حين قالت : – اسمعي يا ماجدة من يملك المال يملك كل شيء . – كيف ؟. – كنت أعمل في منزل يقع ضمن حديقة متشابكة الأشجار ،تشبه المظلات ،وكانت صاحبة البيت قبيحة الوجه ، أظهر زوجها إعجابه بأمانتي ، اعتبرني كابنته لأنني يتيمة ،مما أثار غيرتها فهمت الأمر خطأ ،لفقت لي تهمة السرقة ،ولأنها ذات نفوذ من خلال ثروتها ،استطاعت أن تنفذ حقدها ،وكنت الضحية . ( لملمت ذكرى لقاء الأمس بالهدبِ ورحتُ أحضنها بالخافق التعبِ أيد تلوح من غيب وتغمرني بالدفء والضوء بالأقمار بالشهب مال العصافير ترنو ثم تسألني أهملت شعرك راحت عقدة القصب ) نظرت في المرآة ،لمحت في عمقها وجها ينظر إليها بهيئة عابسة ،تحرت الأشياء من حولها ،ندبت سوء طالعها ،فكرت أن السماء تعاقبها ،أظهرت شيئا من عدم الرضا عن النفس ،كانت في غاية الارتباك ،وراحت تحسب الدقائق ،حين تساقط الثلج في الليل ،فكرت بالمستقبل ،ومازال كل شيء غامضا ،ذرعت فسحة البيت ذهابا وإيابا ،كان المغص يجتاح أمعاءها ،نادت على أمّها ،لبت نداءها ،أحضرت “قابلة ” تملك شجاعة خارقة ،وصاحبة خبرة قديمة في مثل هذه الحالات ، قامت بالواجب ،قدمت شرابا يخفف شيئا من الألم ، فحصتها بعناية ،أدركت وضع الجنين : – رأس المولود إلى الأعلى . أكدت أن وضعه بخير . سألتها أمّ ماجدة : – ما العمل ؟. – كالعادة .لا تنقصك المعرفة . كانت الأمّ في غاية الارتباك ،عيناها المتيقظتان ترنوان إلى ابنتها بين الفينة والفينة ،أدركت أنها ترزح تحت وقع الفاقة ومهام الأمومة ، تحملت الألم بقوة وصبر ، فأسرعت تصنع مرق الزنجبيل ،هذا المرق يحمي بيت الرحم .تقدم النصح بعدم الحركة ،والالتزام بتعليمات ” القابلة ” لأنها خبيرة بمثل هذه الأمور . فلم تدخر جهدا ، تدرك أن الأمر يستحق الاهتمام ،بقيت ترقب ابنتها حتى غالبها النعاس . وراحت تحسب الدقائق ،لا تضيع منها دقيقة واحدة ،دون تنهيدة تذمر ،قالت لنفسها وهي تتأمل وجه ابنتها البكر :” حالتها غير طبيعية ، ينبغي أن نكون على حذر “. وقفت قرب السرير ،تأملت وجهها ، كانت ” ماجدة “ت رأت في الحلم طيرا كبيرا أسود اللون ينقض من الفضاء بلمح البرق يغرس أظافره الحادة في أحشائها ،يسحب الجنين ،ويطلق جناحيه للريح ،اندفعت تقتفي أثره ، تصرخ وتصرخ إلى أن اجتاز النهرين . شعرت الأمّ بهبوب العاصفة ،أيقظتها من رقادها وقطعت عليها الحلم ، تألمت من لسعات سوط يهوي على ظهرها ،يتكسر مع شهقة حادة . وقعت الشهقة على مسمعي أمّها ،بعد صيحة ألم ،استردت زمام أعصابها فأسرعت خائفة ،ربتت على كتفها : – اجلسي …كما جلست ليلة الزفاف .. كانت صاحبة خبرة وتجربة ،استجمعت قواها،حين تجاوز الوقت منتصف الليل ،ورسم التعب خطوطه القاسية على وجهها ،انفجرت قائلة لزوجها : – أحضر القابلة فورا . خرج ساخطا مهتاجا يكاد أن يفقد عقله مع صرخات تكاد لا تنقطع في ليلة باردة ،فقال لذاته :” والله لئحطمن رأس ابن العاهرة “. كان في غاية الارتباك ،فانطلق الصراخ في داخله من كل الجهات ،فجأة لم يبق سوى سكون تلفه ريح باردة ، وخطوات ليل مترجرجة يلف البيوت بظلام عميق .قرع الباب بيد مرتجفة ،انتظر قليلا ، فتح الباب، وقف أمام القابلة ،كانت قسمات وجهه تعبر عن ألم كبير . نظرت إليه ،كانت مستعدة لتلبية طلبه ،يرتسم على قسمات وجهها الحزم والثبات فسألته بلهجة تلونها الدهشة : – كدت تخيفني . – أسرعي ماجدة في حالة المخاض . قفل أدراجه ومن خلفه القابلة، وحين أصبحت أمام ماجدة ،لاحظت بكثير من الانتباه شهقات تصحبها سياط شرسة ،تلف الحوض برمته ،يتفصد العرق أنحاء الجسد في محاولة لإطفاء اللهب. انفجرت بالبكاء ،قرأت نبأ لم تكن تتوقعه ، وبدت الحقيقة واضحة أمام عينيها ،قدمت لها قطعة من القماش : – ضعيها في فمك ،وشدي عليها بأسنانك . كانت في أوج ألمها ،كادت أن تفرغ جذوة النفس في حمى الألم،عبقت رائحة الدم بين أرجاء الغرفة ،و تحولت قطعة القماش إلى ذبالة فانوس تمتص اللعاب ،وتحرض على فرز المزيد منه ،وراحت تشهق بعد احتباس نفسها ،حسب وصية القابلة . كانت أمّها ترقب المشهد فانقبض قلبها ،عادت بالذاكرة إلى ذلك اليوم ،حين ولدت ” ماجدة “.. أطل المولود دون صراخ .لم يكن بوسعها أن تفعل شيئا ، سألت نفسها :” ليس الأمر صعبا على الله ،أن يرزقني بحفيد “. كانت ” ماجدة ” تصر على تنفيذ وصية القابلة ،تتحرق لهفة لرؤية الطفل ، خلفت الأمومة في نفسها شعورا بالاطمئنان ،ولاحت على وجهها إمارات انشغال ،بسبب عدم صراخ المولود فحدثت نفسها:” أيعقل أنه أخرس …أو ربما فارق الحياة؟! ” . جلجل صوت القادم ،فأدركت أنه خرج إلى النور ،كانت القابلة تقف في وسط البيت ،أدركت ما يدور بخلد ” ماجدة “،ضحكت لتخفف عنها شيئا من تفكير ،ربما يؤذيها : – ( اسم الله …(قل أعوذ برب الفلق )… ( ومن شر النفاثات في العقد ) . بلغت ماجدة ذروة السخط حين تدفق الدم ،كان ارتيابها يزداد مع تداخل آيات من الذكر الحكيم ،أحست بخوف حين رأت المولود داخل كيس يأخذ لون الزمرد ،تحيطه يدا القابلة ،فسرّت لنفسها :” لا يمكن أن ينتهي الأمر على خير “. جاءت الأمّ تحمل الماء البارد ،قدمته للقابلة سكبته فوق الغلاف الذي تشقق ،صرخ المولود على حين غرة ،تأملته : – يا فرحي …ضناي حيّ . – اطمئني. دهشت ” ماجدة ” ، حاولت أن تبتسم حين صرخ الصرخة الثالثة ،كأنه يستقبل العالم بشديد من الاحتجاج ،أجهشت بالبكاء ، فقالت للقابلة مظهرة احتراما كبيرا : – أسترد أنفاسي بكثير من المشقة . – لا عليك … – تعبت معنا . – لقد تعودت على مثل هذه الولادات ؟ ودفعت المولود إلى حضنها ،وربتت على كتفها : – إنه كامل الخلق …ككل الولادات . – حقا ؟. – نعم. قل هو الله أحد . استردت ” ماجدة ” هدوءها ، ضمت المولود إلى صدرها العاري ،بدافع الفطرة بحث الطفل عن حلمة الثدي ،فدفعت الحلمة إلى فمه ،قدرت ذلك متفائلة ،فخلف التفاؤل في نفسها شعورا بالتوازن ،وأخذ الطفل يمص حلمة الثدي ،فسال اللبن على وجهه ،وانزلق على سرتها . خفق قلب القابلة بشدة ،قبل أن تغلق الباب خلفها ،كانت تسير بتمهل ،تلوح على وجهها إمارات انشغال ، لأنها وجدت أن الولادة متعبة ،فلم يكن بمقدورها التقاعس كونها مسؤولة عن كافة ولادات البلدة . وقبل أن تدلف من البيت دوى انفجار عنيف ،هزّ المباني وتصدعت جدران …وأيقظ وحوش الأرض ،لتخرج من أوجارها . صرخت أمّ ماجدة : – يا إلهي !… – الله أكبر فعلوها أولاد …الله يسترنا من شرهم . تناولت الطفل ،وراحت تهدئ من روعها ،وتطيب خاطرها : – ماذا ستسميه ؟. – فادي . استولى على الأمّ إحساس غريب ،لاحت الأسماء : – ( خير الأسماء ما حمد وعبد ). توغلت ” ماجدة ” في الأسماء ،مضت الأحرف في ذاكرتها ،كانت شغوفة باسم ” فادي ” فقالت : – فادي كل الأسماء . ازدادت الجذوة اشتعالا في روح أمّها ،أخذت تنعم النظر في وجه المولود، أسرعت لإحضار وعاء من الماء ،وضعت الطفل في وسطه ،غسلت جسده ، غنت سموك فادي ،سنرقص لأجلك ،مادمت حيا ونشبع جلدك بالملح ) . استرسلت بتلذذ كبير بعبارات الأغنية ، صبت الماء على جسده ، كانت عيناه تنظران إلى اللانهاية ،فأخذ يظهر شيئا من الاحتجاج ،مما جعل أعصابها ترتجف ،و لم تهدأ حتى لفته بحزام من قماش القطن ،وبهدوء وضعته بجانب أمّه ،وأسرعت تقدم لها شرابا خاصا يقدم للمرأة في حالة النفاس : – هنيئا ( أمس انتهينا فلا كنا ولا كان يا صاحب الوعد خل الوعد نسيانا طاف النعاس على ماضيك وارتحل حدائق العمر بكين فاهدأ الآن كان الوداع ابتسامات مبللة بالدمع حينا وبالتذكار أحيانا حتى الهدايا وكانت كل ثروتنا ليل الوداع نسيناها هدايانا ) هدأت نفسها من ذكرى أليمة ،في جو يسوده الضباب ،ترك في نفسها أسوأ انطباع ،رأت الأشياء ،وكل الموجودات ،كانت عقارب الساعة تزحف إلى موعد اللقاء.اتخذت لنفسها مبدأ ( أنها جاءت لذات الأمر ) . ليست من النساء اللواتي تخور عزيمتهن ،ولم يتح الوقت للانتظار ، ارتمت أمام مقود السيارة ،حزينة مجللة بالسواد ،قررت أن تذهب إلى مقهى الروضة ،بغية أن تقابل المحامي ” صابر “الذي وكلته النيابة للدفاع عنها يوم أطلقت النار على زوجها ، يومذاك حجزتها المحكمة في سجن النساء ،كانت ما تزال في شرخ الصبا،وقد تربت في بيت زوج أمّها ،فكانت تشاركهما الأفراح والأحزان ،إلى حين عصفت ريح الخريف في داخلها . فأحس “صابر ” بشيء يحفزه إلى التعاطف معها فلم يبح بسرّه :” أليس حرام أن يعرض هذا الجمال لمباضع الجزارين “؟. منذ أن غادر القرية لم تعد تعرف عنه شيئا .انطلقت السيارة تشق ضباب الشارع ،وطيلة المسافة تستحضر العبارات ،تدخرها إلى تلك المقابلة ،تحدثت في نفسها : ” يا إلهي !… لم أحضر إلى هنا إلا لأطلب ولدي …هل هذا ضرب من المستحيل،لقد قضى والدي أيّام ولادتي ” ؟. جعلتها الذكرى تفقد صوابها ،فغدت كمن تنبش الذكريات من الركام ،شعرت أنها تدفع ” صابر ” إلى مغامرة ربما تودي بحياته ،بادئ ذي بدء أنبها ضميرها ،فصمتت مليا ،فركت كفيها بإطار المقود ،شعرت بالضيق ، أدركت أنه ليس هناك من يستطيع إحضار ولدها غيره ،قالت بهدوء : – نعم ،لا غيره … كانت عل استعداد أن تضحي بكل ما تملك من ثروة ، ،مقابل عودة ولدها فلذة كبدها ، وكيف لم تبحث عنه ،وتثأر لنفسها ممن جعلها مضغة على الأفواه ،وجعلها تعيش الفاقة بكل معانيها ،وكيف وهي اليوم غير الماضي ،الآن يحسب لها ألف حساب ،و تعد امرأة واسعة الثراء ، أليس هي من دفعت سمعتها ثمنا لحريتها ،تزاحمت في نفسها معايير الحقيقة فسألت ذاتها : ” ترى حريتي أمْ ولدي “؟. كانت المقارنة صعبة ،انتفضت من الركام ( كالفينيق )، فحرك حزنها حجارة السنين ،كانت في المدى المنظور كالموتى ترتدي قميصا أبيض سابحة في فضاء فيروزي ،وراحت تناجي ذاتها :” ليموت ألف ولد …وتبقى الحرية ” . فهي لا تنسى أن وظيفة المرأة الإنجاب : – هل من يقاوم قوانين الطبيعة ؟. عادت إلى سيارتها لا تدري كيف مسحت الحمرة وراحت تستحضر الكلمات البيضاء وتمنت لو اتيحت لها الفرصة كلي تهدم سياج البعد الذي صنعه القدر ،منذ ذلك اليوم بدأ العالم بالزوال أمام ناظرها ،والمدن خلت من سكانها وتحولت في ذاتها الدقائق إلى عناكب تقفز بين السطور والفواصل ترتدي ثوب اليعاسيب وتطير ،أما الأشجار المترامية من بعيد غدت أرقاما لعدد صرير السريرعلى غدائر اللهاث ،لكن السيارة تحركت كنحلة تبحث عن القطر في شوارع حمص ،وغدت الأمنيات تسكن أبراجها كالحمائم وكان عليها أن تحظى بصابر الذي دافع عنها أمام المحكمة دون أجر فقالت : – سأجده . شعرت بحيرة كادت تشل لسانها ،ووجدت نفسها تندفع بسيارتها بسرعة كبيرة . تثاقلت أهدابها من الدفء ،وغالبها النعاس ،رحلت بعيدا مع الأحلام ،مضت على ضفة النهر ،مستغرقة ضجرة ،كان النهر يزدحم بالطيور ، برزت أصوات الحيوانات ،وامتلأ سواد الليل المتقهقر بخوار البقر وثغاء الماشية ،و غناء الفلاحين ،ورقص المناجل على إيقاع النور الآخذ بالتيقظ ،وبدت واحات النخيل موشحة بالغسق ،فاختلط الأمر في ذهنها ،وبسخاء أمرت للأطيار بالقمح ،فأخبرتها الطيور عن كل الطقوس ،وقد توصلت إليها بعقلية من يبحث عن الحقيقة ،وفجأة وقف رجل بجانبها ،نظرت إليه بصمت ،كان ذكيا ،يمتاز بوجه جميل فقال : – هل وجدت ضالتك ؟. – لا … – يسرني خدمتك . – حسنا أريد فادى … – لا ما نع .. صرخت : – استحلفك بنخيل العراق ،من أنت ؟. وقبل أن يرد الجواب وجدت نفسها تنهض من النوم ،فأخذت تطوف بين أرجاء البيت ،وراحت تستعيد أحلامها ،كانت مستعدة للأخذ بالثأر ،بدا في عقلها رغبة في حب الاستطلاع ،تذكرت ذلك اليوم ،حين طلقها زوجها ثلاثا ،واقسم أن ينفذ فعله ،ويحرمها من ولدها ،وقد نفذ رغبته ،حين رفع بحقها دعوى طلاق بجرم الزنا،وقد دعمها بشهود بعدد أصابع اليدين ،أقسموا اليمين بهتانا وزورا أمام القاضي ،فلم تتمالك أعصابها ،تناولت مسدسا من صدرها ،وأطلقت النار على المفتري ،فهوى على الأرض ،يتخبط بدمه كالذبحية ،قبضوا عليها ،ووضع أحدهم القيد بيديها ،وهناك بين الجدران البائسة ،ألبسوها ثياب المجرمين ، وأودعوها ـ
 الى اللقاء في الحلقة القادمة من – رواية ” الاحتجاج ” بقلم القاص والروائي السوري نبيه اسكندر الحسن

من almooftah

اترك تعليقاً