الكاتب زكريا تامر

بطاقة تعريف الكاتب
ولد زكريا تامر بدمشق عام 1931، واضطر الى ترك الدراسة عام 1944، وبدأ كتابة القصة عام 1958، وكتب ايضاً المقالة القصيرة الانتقادية وقصص الاطفال، ويقيم في بريطانيا منذ عام 1981.تولى مناصب عدة منها على سبيل المثال رئيس تحرير لمجلة الموقف الادبي السورية، ومدير تحرير لمجلة الدستور بلندن، ومدير تحرير لمجلة الناقد، اضافة الى عمله كمحرر ثقافي لدى شركة رياض الريس للكتب والنشر بلندن. صدرت اولى مجموعاته عام 1960 وكانت بعنوان «صهيل الجواد الابيض». وتعتبر مجموعة النمور في اليوم العاشر من العلامات الكبرى في مسيرته القصصيةوقد اعدت عن قصصه دراسات ورسائل ماجستير ودكتوراه في العديد من الجامعات العربية والاوروبية.

كما ترجمت اعماله الى اللغة الفرنسية والروسية والانجليزية والالمانية والايطالية والبلغارية، والاسبانية «كتابان» والصربية (ثلاثة كتب). كتب 27 قصة للاطفال تشرف في كتيبات مصورة وفي عام 1985 كان يعد صفحتين اسبوعيتين للاطفال في جريدة «القبس» الكويتية، وكذلك كان يقوم بالاشراف على صفحات الاطفال لمدة سنتين بجريدة «الاخبار» الاردنية، فضلا عن الزوايا الاسبوعية واليومية والشهرية في عدد من المجلات السورية والعربية بشكل عام.

ولقد ساهم زكريا تامر في تأسيس اتحاد الكتاب بسوريا في اواخر عام 1969 وكان رئيسا للجنة سيناريوهات افلام القطاع الخاص في مؤسسة السينما في سوريا. شارك في مؤتمرات وندوات عقدت في بقاع شتى من العالم. وكان رئيسا للجنة التحكيم في المسابقة القصصية التي اجرتها جريدة «تشرين» السورية عام 1981، والمسابقة التي اجرتها جامعة اللاذقية عام 1979، وكان عضوا بلجنة المسابقة القصصية بمجلة «التضامن» بلندن واخيرا صدر له في الشهر الماضي مجموعة قصصية جديدة بعنوان «تكسير ركب».

ـ الوظائف التي عمل بها خلال حياته:
ـ عمل في مهن يدوية عديدة.
ـ عمل في مديرية التأليف والنشر في وزارة الثقافة السورية.
ـ عمل رئيس تحرير الجريدة الاسبوعية (الموقف العربي) السورية.
ـ كاتب نصوص في تلفزيون جدة في السعودية.
ـ عمل في وزارة الاعلام السورية.
ـ رئيس تحرير مجلة (رافع) للاطفال السورية.
ـ رئيس تحرير مجلة (الموقف الادبي) السورية.
ـ رئيس تحرير مجلة (اسامة) للاطفال السورية.
ـ مدير تحرير مجلة (الدستور) لندن.
ـ محرر ثقافي في مجلة (التضامن) بلندن.
ـ مدير تحرير مجلة (الناقد) ومحرر ثقافي لدى شركة رياض الريس للكتب والنشر بلندن.

اهم المؤلفات
ـ صهيل الجواد الابيض: (قصص) 1960م.
ـ ربيع في الرماد (قصص) 1963م.
ـ الرعد: (قصص) 1970م.
ـ دمشق الحرائق: (قصص) 1973م.
ـ لماذا سكت النهر: (53 قصة للاطفال) 1973م.
ـ النمور في اليوم العاشر: (قصص) 1978م.
ـ قالت الوردة للسنونو: (18 قصة للاطفال) 1978م.
ـ نداء نوح: (قصص) 1994م.
ـ سنضحك: (قصص) 1998م.
ـ أف! : (مختارات قصصية) 1998م.
ـ الحصرم: (قصص) 2000م.
ـ 37 قصة للاطفال نشرت في كتيبات مصورة 2000م.

ـ اعدت عن قصصه دراسات ورسائل ماجستير ودكتوراه في العديد من الجامعات العربية والاوروبية، وترجمت قصصه ونشرت في كتب باللغات الفرنسية والروسية والانجليزية والالمانية والايطالية والبلغارية والاسبانية والصربية.
ـ كاتب زوايا في العديد من الصحف العربية.
ـ واشرف على تحرير صفحات ثقافية في عدد من الصحف العربية.
ـ اعد واشرف على تحرير صفحات الاطفال في صحف عربية عديدة.
ـ كان عضوا في جمعية الادباء العرب في سوريا، وساهم في تأسيس اتحاد الكتاب في سوريا في اواخر عام 1969م، وانتخب عضوا في مكتبه التنفيذي مسئولا عن دائرة النشر والمطبوعات، ثم صار نائبا للرئيس مدة اربع سنوات.
ـ كان رئيسا للجنة سيناريوهات افلام القطاع الخاص في مؤسسة السينما في سوريا.
ـ شارك في مؤتمرات وندوات ادبية عقدت في سوريا ولبنان ومصر وتونس وليبيا والمغرب والعراق والكويت وقطر والامارات العربية المتحدة والسعودية وروسيا والمانيا وبلغاريا وايران.
ـ كان رئيسا للجنة التحكيم في المسابقة القصصية التي اجرتها جريدة (تشرين) السورية عام 1981م، ورئيسا للجنة التحكيم في المسابقة التي اجرتها جامعة اللاذقية عام 1979م.
ـ وعضوا في لجنة المسابقة القصصية لمجلة (التضامن) بلندن، وعضوا في لجنة التحكيم في مسابقتين من المسابقة الروائية التي اجرتها مجلة (الناقد) بلندن.

نماذج من أعمال الكاتب
الصفقة
قبو خاو
نبوءة كافور الإخشيدي
يوم أشهب
الأغصان
الطائر الأخضر
سنضحك كثيرا
انتظار امرأة
النمور في اليوم العاشر

الصفقة

بلغ الجنين من العمر تسعة أشهر، وحان وقت خروجه من بطن أمه إلى العالم كي يظفر باسم وحارة ومدينة ووطن وأهل وأصدقاء، ولكنه لم يصدر عنه ما ينم عن عزمه على مغادرة بطن أمه الذي يقيم به، فقالت له أمه متسائلة بغيظ وسخرية: “إلى متى ستبقى في بطني؟ هل تنتظر حتى تصبح رجلاً ذا شاربين؟ ينبغي لك أن تشفق علي فقد صرت ثقيل الوزن الى حد أني بت لا أستطيع المشي”.
قال الجنين: “أنا لا أحب السير في الظلام، ولن أغادر بطنك إلا إذا عرفت أولاً أي نوع من الحياة ينتظرني في العالم الذي سأصبح واحداً من أفراده”.
فكرت الأم قليلاً، ثم قالت لجنينها: “أتريد كذباً يخدعك ويسعدك أم تريد صدقاً يقول لك الحقيقية ويشقيك؟ ”
قال الجنين فوراً: “أريد الصدق وحده ولا سيما أن الصدق ينجي والكذب يردي”.
قالت الأم: ” إذن أنصت لما سأقوله”.
قال الجنين: “قولي ما تشائين، فكلي آذان صاغية”.
قالت الأم: ” العالم الذي ستحيا فيه معتوه فظ قاس لا يرحم ولا يشفق”.
قال الجنين: “ما من قوي إلا وفوقه من هو أقوى منه، وما من قاتل نجا من قاتل آخر أهرق دمه”.
قالت الأم: “ستزرع الورد ولكنك لن تقطف سوى الشوك وحده”.
قال الجنين:”لن أزرع إلا الشوك كي أقطف الورد”.
قالت الأم: ” من السهل أن تحزن والمن الصعب أن تفرح”.
قال الجنين: ” لن أحزن ولن أفرح”.
قالت الأم: “ستحلم وتتمنى وتحب، فلا تحصد إلا الخيبات وموت الأحلام والآمال”.
قال الجنين: “سأعرف متى أتكلم ومتى اصمت، وسيندم غيري”.
قالت الأم: ” الشجرة ذات الثمار الطيبة محكوم عليها بالهلاك بسبب طيب ثمرها”.
قال الجنين: ” لن أكون شجرة بل سأكون فأساً”.
قالت الأم : ” الأنهار تظل عذبة الماء حتى تصب في البحار المالحة، والأنهار أقلية والبحار أغلبية”.
قال الجنين: “بحر كبير مالح خير من نهر صغير عذب المياه”.
قالت الأم: ” العلم في الصغر كالنقش في الحجر”.
قال الجنين: ” لا فائدة في العلم، لا في الصغر ولا في الكبر”.
قالت الأم: ” واجب العاقل إصلاح عيوب نفسه قبل انتقاد عيوب الآخرين”.
قال الجنين:” عيوبي محاسن يليق بها الثناء، وفضائل الآخرين عيوب شائنة”.
قالت الأم: ” قد تضطر في أحيان كثيرة إلى أن تغضب، والغضب من شيم الحمقى”.
قال الجنين:” أن أغضب ويقال عليّ إني أحمق أفضل من أصبح طعاماً لكل الأفواه”.
قالت الأم: ” من افتقر قلبه لم ينفعه غناه”.
قالت الجنين:” هذا كلام لا يؤبه له، وأزدري قائله الذي لا بد من أنه كان فقيراً يوشك أن يموت جوعاً، ويده قصيرة وعينه بصيرة”.
قالت الأم:” ستلتقي أناساً يدفنون الحسنة ويظهرون السيئة”.
قال الجنين:” الكلب إذا أكل وشبع كثر نباحه”.
قالت الأم: “وقد تفقد أصدقاءك صديقاً بعد صديق، ولا غم يشابه غم فقد الأصدقاء”.
قال الجنين: ” الأصدقاء هم أصدقاء في أيام الرخاء وأعداء في أيام البلاء”.
قالت الأم:”اللئام كثيرون، واللئيم كالحية لا يوجد عندها إلا السم”.
قال الجنين:” لن أكون كالطبيب الذي يشرب السم اتكالاً على ما لديه من أدوية”.
قالت الأم: ” تنبه الى أن الغالب بالشر مغلوب”.
قال الجنين:” الماء مهما سخن يطفئ النار إذا صب عليها”.
قالت الأم: “لا نفع في لؤلؤ لا يخرج من بحره”.
قال الجنين:”من طمع في امتلاك اللؤلؤ، فليدفع الثمن للبحر”.
قالت الأم:”سعادة المرء أن يكون رزقه في بلده”.
قال الجنين:”سعادة المرء أن يكون رزقه من غير تعب”.
فصاحت الأم بنزق:”إذا كانت لك هذه الآراء، فما مبرر بقائك في بطني؟”
قال الجنين:”أنا أنتظر أن تطلقي أبي الفقير وتتزوجي من آخر ذي ثراء وجاه ونفوذ”.
فركضت الأم إلى أقرب مستشفى مشمئزة مستغيثة.
– من كتاب “نداء نوح”، رياض الريس للكتب والنشر، طبعة أولى 1994.
أضيفت في 05/05/2005/ خاص القصة السورية / موقع جسور

الأغصان

ذهب بلال الدندشي إلى مدرسته كعادته في صباح كل يوم، ووصل إليها متأخرًا، ودخلها وهو يرتعد خوفًا من معلمه وتوبيخه الفظّ الساخر. ولكنه وجد التلاميذ نائمين والمعلمين نائمين، فحاول إيقاظهم، فلم يستيقظ أحد. وسئم الجلوس وحده، فتثاءب ونام، ورأى في أثناء نومه أنه نائم في مدرسة تلاميذها نائمون نومًا عميقًا غير مبالين بصيحات معلميهم الغاضبة. وأيقظته أمّه من نومه، وحثته على الإسراع حتّى لا يتأخر عن مدرسته، فهرول قاصدًا مدرسته ليجد معلميها مقتولين وتلاميذها يلعبون مرحين، ولم يلعب معهم لأن أمّه أيقظته من نومه ليذهب إلى مدرسته. فارتدى ثيابه على عجل، وغادر البيت من دون أن يأكل، وهرع إلى مدرسته وجلس في صفه بين التلاميذ متأهبًا لما سيحدث. ودخل المعلم الصف بوجه عابس وعينين صارمتين، فحدّق إليه التلاميذ الصغار بنظرات ملأى بالكراهية، وتهامسوا فيما بينهم بكلمات مبهمة، فصاح بهم غاضبًا: (اخرسوا).
فصمت التلاميذ فورًا، ووضع المعلم محفظته المهترئة على سطح طاولته، وفتحها، وأخرج منها رزمة من الأوراق لوّح بها قائلاً للتلاميذ: (أتعرفون ما هذه الأوراق? هذه أجوبتكم المكتوبة ردّا عن سؤالي عن المهنة التي ستختارونها حين تصيرون رجالاً).
واقترب المعلم من سلة المهملات، ولوّح بالأوراق ثانية، وقال للتلاميذ: (هذه أجوبة لا تستحق حتى الصفر).
ورمى الأوراق في سلة المهملات بحركة المتخلص من قمامة مقززة، وقال لتلاميذه: (علّمتكم طوال أيام النشيد الوطني الرسمي لترددوه في الحفلة التي ستقام بمناسبة انتهاء العام المدرسي، وسأمتحن اليوم قدرتكم على الحفظ، والويل لمن يخفق).
فتهامس التلاميذ متذمرين، فزعق بهم معلمهم بصوت حانق: (اخرسوا).
فسكت التلاميذ، وقال لهم معلمهم: (سأعدّ من الرقم واحد إلى الرقم ثلاثة، وحين أصل إلى الرقم ثلاثة تبادرون إلى ترديد النشيد بصوت واحد. هيا استعدوا. واحد.. اثنان.. ثلاثة).
فتبادل التلاميذ النظرات الغامضة، وشرعوا في إنشاد مقطع من أغنية غرامية معروفة بأصوات عالية حماسية محافظين على اللحن الأصلي للنشيد الوطني، فصاح بهم معلمهم: (اخرسوا).
فاندفع التلاميذ نحوه كطلق ناري، وضربوه، بمساطرهم وكتبهم ودفاترهم وأقدامهم طالبين إليه أن يخرس. فبوغت المعلم بما حدث، وصاح غاضبًا مستنجدًا، فلم يأتِ أحد من المدرسة لنجدته. وترنح وارتمى على الأرض بعد أن أصيبت عظام ساقيه بضربات موجعة، وحاول أن يقاوم ويهدد ويتوعد ويصبر، ولكن ألمًا طاغيا أجبره على البكاء والتوسل إليهم أن يكفوا عن ضربه، فلم يبالوا بتوسله، ولم يتوقفوا عن ضربه إلاّ عندما أذعن ولم يعد يصدر عنه أي صوت. فأوثقوه بحبال أعدوها سلفًا، وأمروه بترديد النشيد الوطني، فبادر إلى إطاعة أمرهم، وردد النشيد الوطني بصوت متحشرج مرتجف، فسدّوا آذانهم بأصابعهم متأففين. وانفصل بلال الدندشي عن التلاميذ، ووقف قبالتهم مقلدًا وقفة معلمهم، وصاح بهم بلهجة مرحة آمرة: (واحد.. اثنان.. ثلاثة).
فتعالت أصوات التلاميذ تردد النشيد الوطني متآلفة متناسقة، وتوحدت في صوت واحد خرج من نوافذ المدرسة ليتحوّل موجًا .

يوم أشهب

تمرّن شكري المبيض مع زملائه في السجن تمارين رياضية لا تخلو من العنف، غايتها الحفاظ على سلامة صحته، فأدت إلى إصابة جسمه بالكثير من الرضوض والكدمات والجروح. ومارس شكري المبيض هوايته في شي الكستناء، الفاكهة المفضلة لديه، فأحرقت النار أصابع يديه وقدميه وظهره وصدره وبطنه. وحاول شكري المبيض حلاقة ذقنه صباحًا بينما كان منهمكًا في الاستماع إلى ما يقدمه مذياعه من نشرات أخبار وأغان، فأخطأت يده اليمنى الممسكة بموسى الحلاقة، ولم تخلص جلد الوجه من شعر لا لزوم له، وذبحت بحركة طائشة العنق من الوريد إلى الوريد، فنُقل شكري المبيض توّا إلى أفضل مستشفى، وهناك حاول الأطباء إصلاحه، فعجزوا، ووضعت جثته في كيس من قماش متين، وسلمت إلى سيارة توزع الموتى يوميا على بيوت أهاليهم. ولم يواجه سائقها أي مشقة في الاهتداء إلى بيت أهل شكري المبيض في حارة قويق، ولكنه بوغت به خاليا منذ شهور. فأبوه مقبوض عليه بتهمة التشرد والتسول، وأخوه يحاكم لسطوه على أموال الدولة، وأمه مسجونة لاعتدائها الشفوي على أعراض نساء محترمات، وأخته معتقلة لأنها تتعمد ألا تعبر عن فرحتها أو حزنها.
وسأل سائق السيارة الجيران عن أقرباء شكري المبيض، فأخبروه أن عمه هاجر إلى أميركا، وخاله وأبناءه وبناته إلى كندا، وابن خالته إلى أستراليا، وخالته تعمل خادمة بدبي. فسأل السائق عن عناوين أصدقائه، ولكن كل الذين قيل عليهم إنهم من أصدقاء شكري المبيض أقسموا شاحبي الوجوه أنهم ليسوا بأصدقائه، ولم يتبادلوا معه كلمة واحدة، ولو رأوه اليوم مصادفة لما عرفوه. فخجل شكري المبيض من السائق، وانتهز فرصة انشغاله بشراء خضراوات وفاكهة طلبتها زوجته، ولاذ بالفرار، واختبأ في بيت أهله منتظرًا عودتهم ليدفنوه مطلقين الزغاريد ابتهاجًا بخروجه من السجن

نبوءة كافور الإخشيدي

صاح كافور الإخشيدي بأعوانه: (قبل ثلاثة أيام دخل البلاد رجل غريب اسمه المتنبي، وآمركم بإحضاره إلي فورًا حيا أو ميتًا).
وكان المتنبي آنئذٍ يمشي في شوارع القاهرة، وئيد الخطى، متنقلاً من شارعٍ إلى شارع، وكل شارع يبدو لعينيه عالمًا جديدًا سحريا قادرًا على أن يهب بهجة تحول الرمل عشبًا أخضر.
وبلغت بهجة المتنبي الذروة عندما رأى نهر النيل، فتوقف عن المسير، ونظر إلى ماء النهر كأنه طفل يشاهد بحرًا أول مرة في حياته.
قال النيل للمتنبي: (اهرب. الهرب مما ينتظرك جرأة وشجاعة وبطولة).
فلم يسمع المتنبي ما قاله النهر، إنما تدفقت إلى مخيلته كلمات كثيرة تتنافس على وصف نهر وامرأة وملك عادل.
قال النيل للمتنبي: (اهرب، اهرب، اهرب!).
ولكن المتنبي كان يجهل لغة الأنهار، واستمرت كلماته في التنافس على وصف نهر عظيم وامرأة جميلة وملك رحيم متسامح. ثم تبددت فجأة حين انقض على المتنبي عدد من الرجال الأقوياء، القساة الوجوه والأيدي، واقتادوه إلى قصر كافور الإخشيدي غير مبالين بتساؤلاته وصياحه النزق المحتج.

كافور الإخشيدي: (المعلومات المتوافرة لدي تقول إنك لست مصريا).
المتنبي: (إذا كنت مولودًا بالكوفة وجئت مصر زائرًا، فهل هذا مسوِّغ لاعتقالي ومعاملتي أسوأ معاملة).
المتنبي (بهزء): (أمرك مطاع).
كافور: (اخرس. ألم آمرك بألا تتكلم).
المتنبي: (لن أتكلم).
كافور: (ليس من حقك أن تتكلم أو تسكت إلا وفق أوامري. قل لي: ما اسمك).
المتنبي: (المتنبي.. أبو الطيب المتنبي).
كافور: (ماذا تشتغل).
المتنبي: (لا مهنة لي سوى الكتابة. أنا شاعر).
كافور: (لا تتحذلق. الشعر أيضًا مهنة لا تختلف عن مهنة الحداد والنجار والدهان وحفار القبور. اسمع. ما دمت تزعم أنك شاعر، فهل نلت إذنًا من السلطات المختصة).
المتنبي: (وهل تطلب السحابة إذنًا إذا أرادت أن تمطر).
كافور: (إني أكلمك عن قوانين وأنظمة، فلا تجاوبني بكلام منمق سخيف يصلح لأن يوجه إلى مراهقات. أنت الآن لست في الصحراء. أنت في بلاد يسودها التنظيم، وكل عمل لابد لصاحبه من أن ينال إذنًا رسميا قبل أن يمارسه، وأنت خالفت القوانين عندما نظمت شعرًا من غير إذن).
المتنبي: (لقد جئت إلى مصر قبل ثلاثة أيام فقط، ولم أنظم بعد أي قصيدة، ولم أخالف أي قانون من قوانين البلاد).
كافور: (أنت تدعي أنك شاعر، فما الدليل على أنك شاعر حقًا?).
المتنبي: (أشعاري مشهورة في البلاد العربية كلها، ولا أحد يجهلها).
كافور: (يا لك من وقح! أتجرؤ على اتهامنا بالجهل?).
المتنبي: (كل ما أردت قوله هو أني شاعر ذائع الصيت. ونظمت كثيرًا من الأشعار).
كافور: (هل غنّى أشعارك مشاهير المغنين والمغنيات? أم كلثوم.. لبلبلة.. وردة الجزائرية.. أحمد عدوية.. محرم فؤاد.. شادية.. عبد الحليم حافظ? ما لك صامت? لماذا لا تجيب? أرى أن وجهك قد احمرّ.. احمرّ خجلاً من افتضاح كذبك. سأُتيح لك الفرصة لتثبت أنك شاعر. هيا أسمعني بعض أشعارك).

المتنبي:
يا أعـدل الناس إلاّ فـي معاملتي فيك الخصام وأنت الخصـم والحكم
أعيـذهـا نظـرات منـك صادقة أن تحسب الشحم فيمن شحمه ورم
ومـا انتفاع أخـي الدنيا بناظـره إذا استوت عنـده الأنوار والظلـم
أنا الذي نظـر الأعمـى إلى أدبي وأسمعـتْ كلماتي مـن بـه صمم

كافور: (ما سمعته ليس سيِّئًا. أتجيد نظم قصائد المدح?).
المتنبي: (سبق لي أن مدحت الكثير من الملوك والأمراء.
كافور: (ما دمت تتقن المدح، فينبغي لك أن تنظم قصيدة في مدحي. أنت الآن في مصر، وأنا حاكم مصر. وإذا كنت لست عميلاً لأعداء مصر وتحب مصر، فمن واجبك مدح حاكمها).
المتنبي: (أنا لم أمدح في حياتي سوى رجال عرفتهم، وعرفت ما لهم وما عليهم).
كافور: (أتلمح إلي أنك لا تعرفني? ها أنا ذا قاعد قبالتك وقد صرت تعرفني).
المتنبي: (لم أعرفك بعد المعرفة التي تتيح لي نظم قصيدة في مدحك).
فابتسم كافور الإخشيدي، وأشار بيده إلى أعوانه، فهجموا على المتنبي، وطرحوه أرضًا، ووضعوا رجليه في فلقة، وانهال بعضهم بالعصا ضربًا على باطن قدميه، بينما راح بعضهم الآخر يركل رأسه وجسمه ركلاً شديدًا.
تألم المتنبي، ورغب في أن يصرخ متوجعًا، ولكنه قاوم، وكظم رغبته، وما لبث الألم أن دفعه إلى الصراخ شاتمًا، مستغيثًا. فضحك كافور، وقال: (ما هذا الصوت الجميل? أنت لست شاعرًا. أنت تصلح لأن تكون مغنيا. الله! ما أجمل هذا الصوت! تابع.. أطربنا).
وحين تحول صراخ المتنبي إلى بكاء ذليل، أمر كافور بالكف عن ضربه.
ووقف المتنبي أمام كافور الإخشيدي محني الرأس بذل، مبتل الوجه بالدموع والدماء.
كافور: (ستنظم قصيدة مطوّلة تمتدحني).
المتنبي: سأفعل ما تأمر به.
كافور: (سأعطيك مهلة مدتها سبعة أيام لنظم القصيدة، وستنجو من القتل إذا أعجبتني).
وهمّ المتنبي بالخروج، فقال له كافور: (قف واسمع يا متنبي. إياك وأن تظن أني كغيري من الحكام. إذا أعجبتني قصيدتك، فلا تحلم بنيل درهم واحد من أموالي).
وعاد المتنبي إلى كافور الإخشيدي بعد أربعة أيام، وأسمعه ما نظم من شعر في مدحه، فطرب كافور، وانتشى، وقال: (أنت شاعر حقّا).
وفكر كافور الإخشيدي لحظات، ثم قال للمتنبي: (سأعرض عليك عرضًا لا مثيل له. اختر إما الضرب حتى الموت وإما الحصول على ألف دينار).
المتنبي: (لا أحد يفضل الضرب على ألف دينار).
كافور: (ستنال ألف دينار إذا نظمت قصيدة تهجوني فيها أقذع هجاء).
حاول المتنبي أن يتكلم، ولكن كافورا قال له: (اسكت ولا تنطق بكلمة واحدة. إذا لم تنظمها ضربت، وإذا هجوتني نلت ألف دنيار).
فوعد المتنبي بأنه سيهجوه، وبرّ بوعده، ونظم قصيدة في هجاء كافور الإخشيدي، ونال ألف دينار.
وما إن خرج المتنبي حتى تصايح أعوان كافور الإخشيدي مستغربين مستنكرين، فقال لهم كافور بصوت صارم: (ستظلون أغبياء تجهلون التعامل مع البشر والحياة. سأشرح لكم ما فعلت وأسبابه. المتنبي شاعر متكبر، متعجرف، معتد بنفسه، ويجب أن يعاقب ولا سيما أنه سيكون في المستقبل من الشعراء الخالدين. وقد عاقبته شر عقاب. لقد أرغمته على مدحي ثم أرغمته على هجائي، وهذا التناقض سيصبح في المستقبل تهمة شائنة تدين المتنبي، وتبرهن على أنه مجرد مرتزق صغير غير جدير بالاحترام).
وفيما بعد، اغتيل المتنبي، ومات كافور الإخشيدي، ولكن ما تنبأ به كافور تحقق وعوقب المتنبي شرّ عقاب حيّا وميتًا .

قبر خاو

كان الجنرال رجلاً ذا رئتين ومعدة وأمعاء غليظة وأمعاء دقيقة وكبد وشرايين ملأى بالدم الأحمر، ولا يختلف عن غيره من الرجال إلاّ بكونه جنرالاً في جيش محارب في بلاد ليست بلاده. وكان الجنرال كثير الضجر من مهنته الخالية من الإثارة، ويحلم بأن يعمل يومًا في مزرعة لتربية البقر والغنم أو في مستشفى للمعوقين والمسنين. وكان الجنرال صارمًا كثير الاكتئاب، لا يبتهج إلاّ حين يتخيل عصفورًا صغيرًا يحاول الطيران ويخفق، ولا يبتهج إلاّ حين يتخيل جنوده المطيعين لأوامره يحتلون القرى والمدن متنافسين على هدمها وقتل سكانها، ولا يبتهج إلاّ حين يتخيل أنّه يزود جنوده بأسلحة قادرة على إبادة مئات الألوف في ثوان، فلا يحاولون استخدامها حتى لا يحرموا قتل أعدائهم ببطء وتشف. وابتهج في أحد الأيام ابتهاجًا مختلفًا حين تنبه إلى أن شعرًا جديدًا أسود بدأ ينبت في رأسه ويحل محلّ الشعر القليل الأشيب، وتباهى به دليلاً على الرجولة وعودة الشباب. وتزايد نمو شعر جسمه مغطيا الجلد بطبقة كثيفة خشنة، وتبدل شكل وجهه تدريجيا. وحاول في إحدى الليالي أن يستسلم للنوم، فأخفق، وأحس بقوة غامضة تجتاح كل جسده، فقفز من سريره، وتمطى أمام المرآة وهو ينظر إليها مليا، فرأى أنّه قد صار ضبعًا ذا مهابة مغطى بشعر كثيف، واستحالت أظفار يديه إلى مخالب وأسنانه وأضراسه إلى أنياب. فاستمتع بتبدله، ودهمه جوع لا يقاوم، فانقض على عنق زوجته التي كانت نائمة، وقتلها قبل أن تصحو، ولكنه لم يستسغ لحمها المترهل القاسي، فتركها مشمئزًا، ووثب على ابنها الرضيع المبتسم إبان نومه، وأُعجب بلحمه الطازج الغض.
وكان أحد حراس الجنرال واقفا خارج غرفة النوم مشدود القامة وإصبعه على زناد بندقيته تأهبًا لأي حدث طارئ، فبوغت بضبع يخرج من الغرفة ملطخًا بالدماء، فبادر إلى إطلاق النار عليه، وأرداه قتيلاً، فتراكض بقية الحراس مضطربين متصايحين، وعثروا على بقايا الزوجة وابنها، ولم يعثروا على الجنرال، فساد اعتقاد بأنّ الضبع أكله بأكمله، ولم يترك منه ما يحتاج إلى قبر.

الطائر الأخضر

أحرق أبو حيان التوحيدي كل كلماته المكتوبة على الورق، ورمق رمادها بتشف متنهدًا بارتياح. وأحسّ بالجوع، ولم يجد في بيته ما يصلح لأن يأكله، فمسح فمه بظهر يده، وحمد الله. ووقف أمام المرآة، فلم يعجب بما رأى، وتحوّل خروفًا تحوّل هرّا تحوّل ذئبًا تحوّل طائرًا أخضر الريش، وخرج من النافذة المفتوحة، وطار فوق البيوت، وحطّ على غصن شجرة، وراقب بفضول رجلاً يجلس في حديقة قصره محاطًا بالكثير من ندمائه وخدمه وحراسه، وقد تطلع الرجل حوله، فرأى كل شيء جميلاً، فالعشب أخضر، والأشجار خضر مثقلة أغصانها بالثمر الناضج، والسماء زرقاء، والشمس مشرقة، والورد متنوع الأشكال والألوان، وتساءل الرجل بصوت مرتفع منتش: (هل هناك رجل في العالم أسعد مني?).
فتنافس جميع الذين كانوا متحلقين حوله على التأكيد له أنّه أسعد رجل وأقوى رجل وأرحم رجل وأغنى رجل وأسخى رجل. فاغتاظ الطائر الأخضر، وتحوّل غرابًا أسود، ونعب نعيبًا أجش أزعج الرجل، ودفعه إلى أن يأمر حراسه بطرد الغراب من حديقة قصره، فحاولوا وأخفقوا، وحنوا رؤوسهم خجلين بينما ظل الغراب يطير من شجرة إلى شجرة مواظبًا على إطلاق نعيبه. فاضطر الرجل إلى ترك الحديقة غاضبًا، فاغتبط الغراب، وطار مبتعدًا عن الحديقة بأقصى سرعة حتى بلغ أحد الأزقة، وحطّ على سلك كهربائي، ونظر إلى أطفال يلعبون بمرح صاخبين، فزال عنه حنقه، وتحوّل عصفورًا مغردًا، فلم يتنبه الأطفال إليه، واستمروا يلعبون ضاحكين. فطار العصفور، ورأى في أثناء طيرانه معركة ضارية بين جيشين، فتحوّل طائرة حربية ألقت قنابلها فوق الجيشين، وأبادتهما أجمعين. وطارت الطائرة بعيدًا عن أشلاء الجثث الممزقة، وحلقت فوق ساحة سجن يضرب حراسه سجناءهم بالعصي الغليظة، وقذفت بناءه بقنابلها وهدمته. فبادر السجناء توّا إلى بناء سجن جديد ذي أسوار شاهقة. ورأت الطائرة سفينة تمخر البحر، ويظن ركابها أنّ الطوفان يجتاح الأرض بكاملها، فتحوّلت الطائرة حمامة بيضاء طارت وعادت بعد حين إلى السفينة تحمل في منقارها غصنًا أخضر يقطر دمًا أو حبرًا أحمر .

سنضحك.. سنضحك كثيرًا

في يوم من الأيام، اقتحم رجال الشرطة بيتنا، وبحثوا عنّي وعن زوجتي، ولم يتمكنوا من العثور علينا لأنّي تحوّلت مشجبًا، وتحوّلت زوجتي أريكة يطيب الجلوس عليها. وضحكنا كثيرًا عندما خرجوا من البيت خائبين.
وفي يوم من الأيام، كانت السماء زرقاء لا تعبرها أي غيمة، فقصدنا أحد البساتين، فإذا رجال الشرطة يدهمون البستان بعد دقائق طامحين إلى الإمساك بنا، ولكنهم لم يوفقوا لأنّي تحوّلت غرابًا أسود اللون، دائم النعيب، وتحوّلت زوجتي شجرة خضراء، غزيرة الأغصان. وضحكنا كثيرًا من إخفاقهم.
وفي يوم من الأيام، تذمرت زوجتي من عملها في المطبخ، فذهبنا إلى أحد المطاعم، وما إن بدأنا نأكل حتى طوّق رجال الشرطة المطعم، واقتحموه عابسي الوجوه، وفتشوا عنّا تفتيشًا دقيقًا، ولم يجدونا لأنّي تحوّلت سكينًا، وتحوّلت زوجتي كأسًا من زجاج ملأى بالماء. وضحكنا كثيرًا لحظة غادروا المطعم قانطين.
وفي يوم من الأيام، كنّا نسير الهوينى في شارع عريض مزدحم بالناس والسيارات، نتفرج على ما في واجهات الدكاكين من سلع، فإذا رجال الشرطة يحتلّون الشارع، ويعتقلون المئات من الرجال والنساء، ولكنّهم لم يستطيعوا اعتقالنا لأنّي تحوّلت حائطًا، وتحوّلت زوجتي إعلانًا ملوّنًا ملصقًا بحائط. وضحكنا كثيرًا من غباوتهم.
وفي يوم من الأيام، ذهبنا إلى المقبرة لزيارة أمّي، فهاجم رجال الشرطة المقبرة، وقبضوا على أمّي، ولم ينجحوا في القبض علينا لأنّي تحوّلت كلمات رثاء مكتوبة بحبر أسود على شاهد قبر، وتحوّلت زوجتي باقة من الورد الذابل. وضحكنا كثيرًا من سذاجتهم.
وفي يوم من الأيام، هرعنا إلى المستشفى متلهفين، فزوجتي حامل في شهرها التاسع، وآن لها أن تلد. وما إن دنا فم طفلنا من ثدي أمه الطافح بالحليب حتى انقضّ رجال الشرطة على المستشفى، ولكنّهم عجزوا عن الاهتداء إلينا لأني تحوّلت رداءً أبيض وسخًا، وتحوّلت زوجتي مرآة خزانة خشبية ملأى بالثياب، وتحوّل طفلنا بوقًا لسيارة إسعاف مسرعة. وضحكنا كثيرًا من بلاهتهم، وسنظلّ نضحك .
أضيفت في 14/04/2005/ * خاص القصة السورية عن كتاب في جريدة

النمور في اليوم العاشر

رحلت الغابات بعيداً عن النمر السجين في قفص، ولكنه لم يستطع نسيانه، وحدق غاضباً إلى رجال يتحلقون حول قفصه وأعينهم تتأمله بفضول ودونما خوف وكان أحدهم يتكلم بصوت هادئ ذي نبرة آمرة: إذا أردتم حقاً أن تتعلموا مهنتي، مهنة الترويض، عليكم ألا تنسوا في أي لحظة أن معدة خصمكم هدفكم الأول، وسترون أنها مهمة صعبة وسهلة في آن واحد.
انظروا الآن إلى هذا النمر: إنه نمر شرس متعجرف، شديد الفخر بحريته وقوته وبطشه، ولكنه سيتغير ويصبح وديعاً ومطيعاً كطفل صغير.. فراقبوا ما سيجري بين من يملك الطعام وبين من لا يملكه، وتعلموا.
فبادر الرجال إلى القول إنهم سيكونون التلاميذ المخلصين لمهنة الترويض.
فابتسم المروض مبتهجا، ثم خاطب النمر متسائلا بلهجة ساخرة: كيف حال ضيفنا العزيز؟ قال النمر: أحضر لي ما آكله، فقد حان وقت طعامي.
فقال المروض بدهشة مصطنعة: أتأمرني وأنت سجيني؟ يالك من نمر مضحك!! عليك أن تدرك أني الوحيد الذي يحق له هنا إصدار الأوامر. قال النمر: لا أحد يأمر النمور.
قال المروض: ولكنك الآن لست نمراً.
أنت في الغابات نمر.
وقد صرت في القفص، فأنت الآن مجرد عبد تمتثل للأوامر وتفعل ما أشاء.
قال النمر بنزق: لن أكون عبداً لأحد.
قال المروض: أنت مرغم على إطاعتي؛ لأني أنا الذي أملك الطعام.
قال النمر: لا أريد طعامك.
قال المروض: إذن جع كما تشاء، فلن أرغمك على فعل ما لا ترغب فيه.
وأضاف مخاطباً تلاميذه: سترون كيف سيتبدل؛ فالرأس المرفوع لا يشبع معدة جائعة.
وجاع النمر، وتذكر بأسى أيامًا كان فيها ينطلق كريح دون قيود مطارداً فرائسه.
وفي اليوم الثاني أحاط المروض وتلاميذه بقفص النمر، وقال المروض: ألست جائعاً؟ أنت بالتأكيد جائع جوعاً يعذب ويؤلم.. قل إنك جائع فتحصل على ما تبغي من اللحم.
ظل النمر ساكتاً، فقال المروض له: افعل ما أقول ولا تكن أحمق.
اعترف بأنك جائع فتشبع فوراً.
قال النمر: أنا جائع.
فضحك المروض وقال لتلاميذه :ها هو ذا قد سقط في فخ لن ينجو منه.
وأصدر أوامره، فظفر النمر بلحم كثير.
وفي اليوم الثالث قال المروض للنمر: إذا أردت اليوم أن تنال طعاماً، فنفذ ما سأطلب منك.
قال النمر: لن أطيعك.
قال المروض: لا تكن متسرعاً، فطلبي بسيط جداً .
أنت الآن تحوم في قفصك، وحين أقول لك: قف، فعليك أن تقف.
قال النمر لنفسه: إنه فعلاً طلب تافه، ولا يستحق أن أكون عنيداً وأجوع.
وصاح المروض بلهجة قاسية آمرة: قف.
فتجمد النمر تواً، وقال المروض بصوت مرح: أحسنت.
فسر النمر، وأكل بنهم، بينما كان المروض يقول لتلاميذه: سيصبح بعد أيام نمراً من ورق.
وفي اليوم الرابع، قال النمر للمروض: أنا جائع فاطلب مني أن أقف.
فقال المروض لتلاميذه: ها هو ذا قد بدأ يحب أوامري.
ثم تابع موجهاً كلامه إلى النمر: لن تأكل اليوم إلا إذا قلدت مواء القطط.
وقلد مواء القطط، فعبس المروض، وقال باستنكار: تقليدك فاشل.
هل تعد الزمجرة مواء. فقلد النمر ثانية مواء القطط، ولكن المروض ظل متهجم الوجه، وقال بازدراء: اسكت.. اسكت.. تقليدك ما زال فاشلاً.
سأتركك اليوم تتدرب على مواء القطط، وغداً سأمتحنك.
فإذا نجحت أكلت أما إذا لم تنجح فلن تأكل. وابتعد المروض عن قفص النمر وهو يمشي بخطى متباطئة، وتبعه تلاميذه وهم يتهامسون متضاحكين.
ونادى النمر الغابات بضراعة، ولكنها كانت نائية.
وفي اليوم الخامس، قال المروض للنمر: هيا، إذا قلدت مواء القطط بنجاح نلت قطعة كبيرة من اللحم الطازج.
قلد النمر مواء القطط، فصفق المروض، وقال بغبطة: عظيم! أنت تموء كقط في شباط.
ورمى إليه بقطعة كبيرة من اللحم.
وفي اليوم السادس، وما إن اقترب المروض من النمر حتى سارع النمر إلى تقليد مواء القطط، ولكن المروض ظل واجمًا مقطب الجبين، فقال النمر: ها أنا قد قلدت مواء القطط.
قال المروض: قلد نهيق الحمار.
قال النمر باستياء: أنا النمر الذي تخشاه حيوانات الغابات، أُقلد الحمار؟ سأموت ولن أنفذ طلبك!
فابتعد المروض عن قفص النمر دون أن يتفوه بكلمة.
وفي اليوم السابع، أقبل المروض نحو قفص النمر باسم الوجه وديعا، وقال للنمر: ألا تريد أن تأكل؟
قال النمر: أُريد أن آكل.
قال المروض: اللحم الذي ستأكله له ثمن، انهق كالحمار تحصل على الطعام.
فحاول النمر أن يتذكر الغابات، فأخفق، واندفع ينهق مغمض العينين، فقال المروض: نهيقك ليس ناجحاً، ولكني سأعطيك قطعة من اللحم إشفاقاً عليك.
وفي اليوم الثامن، قال المروض: سألقي مطلع خطبة، وحين سأنتهي صفق إعجاباً.
قال النمر: سأصفق.
فابتدأ المروض إلقاء خطبته، فقال: “أيها المواطنون.. سبق لنا في مناسبات عديدة أن أوضحنا موقفنا من كل القضايا المصيرية، وهذا الموقف الحازم الصريح لن يتبدل مهما تآمرت القوى المعادية، وبالإيمان سننتصر” .
قال النمر: لم أفهم ما قلت.
قال المروض: عليك أن تعجب بكل ما أقول، وأن تصفق إعجاباً به.
قال النمر: سامحني أنا جاهل أُميٌّ وكلامك رائع وسأصفق كما تبغي.
وصفق النمر فقال المروض: أنا لا أحب النفاق والمنافقين ستحرم اليوم من الطعام عقاباً لك. وفي اليوم التاسع جاء المروض حاملاً حزمة من الحشائش، وألقى بها للنمر، وقال: كل، قال النمر: ما هذا؟ أنا من آكلي اللحوم.
قال المروض: منذ اليوم لن تأكل سوى الحشائش.
ولما اشتد جوع النمر حاول أن يأكل الحشائش فصدمه طعمها، وابتعد عنها مشمئزاً، ولكنه عاد إليها ثانية، وابتدأ يستسيغ طعمها رويداً رويداً.
وفي اليوم العاشر اختفى المروض وتلاميذه والنمر والقفص؛ فصار النمر مواطناً، والقفص مدينة.
زكريا تامر 25/11/2002

انتظار امرأة
قصة قصيرة جداً
ولد فارس المواز بغير رأس، فبكت أمّه، وشهق الطبيب مذعورًا، والتصق أبوه بالحائط خجلاً، وتشتَّتت الممرضات في أروقة المستشفى.
ولم يمت فارس كما توقع الأطباء، وعاش حياة طويلة، لا يرى ولا يسمع ولا يتكلم ولا يتذمر ولا يشتغل. فحسده كثيرون من الناس، وقالوا عليه إنّه ربح أكثر مما خسر.
ولم يكفّ فارس عن انتظار امرأة تولد بغير رأس حتى يتلاقيا وينتجا نوعًا جديدًا من البشر آملاً ألاّ يطول انتظاره .

من almooftah

اترك تعليقاً