الفنانة الفلسطينية ريم بنا

تكتب عن

محموددرويش

article darwish

أردت منذ فترة أن أكتب عن لقائي بشاعر فلسطين “محمود درويش” … لكني لم أفعل خوفاً من دخولي في غيبوبة من الأسى … لهذا أجّلتها ..

إلى محمود درويش في عيد ميلاده 13-3-1941 ..

أشاركك بما مرّ بي .. وأريدك أن تعرف ما تعني لي .. أريدك أن تعرف أن فلسطين بالنسبة لي هي قصائدك …

سأروي لك ما كان .. يوم 22 كانون أول (ديسمبر) 2013 ..

منذ أن رحلت .. لم أتجرّأ أن أزور ضريحك الساكن على تلّ في رام الله والمُطلّ عليها كما “لا تريد” .. ربما .. كانت “البروة” مسقط رأسك .. موطنك الأقرب إلى مُشتهاك ..

كان ذلك في شتاء 2013 .. يوم بارد .. صامت .. ماطر .. لكنه جميل .. كنت أسير في شوارع رام الله .. أتسكّع ريثما يحين موعد التدريب مع الأوركسترا النرويجية في قصر الثقافة .. والمحاذي لمتحف “محمود درويش” .. حيث الضريح ..

استوقفت سيارة أجرة وعدت إلى شارع “قصر الثقافة” المُشرف من أعلى الجبل على بلاد ضاعت .. دخلت من البوابة الرئيسية .. وفجأة .. لا أعرف ما الذي استوقفني .. كأنه جداراً شفافاً من الحنين والشغف حال دون خطواتي ..

التفت يساراً .. إلى ذلك التل الصامت المحاط بأحجار بيوت فلسطين القديمة .. “هنا يرقد بسلام – محمود درويش -” .. شُلّت حركة التفكير في رأسي .. ورجعت إلى البوابة .. خرجت .. وسرت كالهائمة إلى مكان رقدت فيه روح “درويش” ..

هناك .. حيث يتصاعد السلم الحجري إلى الأفق .. كتصاعد أنفاس الشمس في الصباح .. صعدت .. صعدت كثيراً كأني أصعد إلى “جدارية” درويش في رحلته مع الحب والشعر والجنون .. في “قصيدة لا تنتهي” وما زلنا ننتظر أن يكتب نهايتها ويأتينا بجديده .. لكنه حاضر في الغياب ..

قلبي كان ينتفض من مكانه .. يضرب صدى المكان من شدّة الإنفعال .. أحاسيسي كانت تحمل وطناً بحاله .. بكل تفاصيله وكل وجعه وفرحه وانتظاره .. خفت أن لا يحتمل قلبي الصغير ويتوقّف عن الدفاع عن الحياة .. وعن بحر وهواء وأرض تستحق ما استطعنا إليها سبيلا .. أو ربما لو توقّف للحظة كان سيصغي إلى أنفاسه في رئتي .. كأنفاس محمود درويش في قصيدة “انتظرها” (دروس من كاماسوطرا) .. أو “شتاء ريتا الطويل” .. أو في قصيدة “تلك صورتها” ..

كنت أصعد بجهد لاهثة .. وكأنني أصعد إلى الشمس ..

نعم .. لتلتقي بمحمود درويش .. عليك أن تصعد إلى الشمس .. وصلت إلى قمة التل .. التفت أولاً ورائي .. رأيت ما يراه شاعري المُفضّل كل يوم .. هذه رام الله .. وبعدها هناك في الأفق .. كل فلسطين ..

أحسست وكأني أتهرّب من لحظة اقترابي إلى الضريح وهذا اللقاء المؤجّل .. لا أعرف ما كان يدور بجنبات روحي .. لكني أذكر أني كنت أحبس دموعي من أن تنفلت ..

تأملت المكان .. الشاهد .. الشمس .. الغابة وراءه .. المغيب .. الصمت المُطلق .. حالة التأمّل نفسها .. اقتربت .. انفاسي لم تعد تصعد بانتظام .. كانت كالدوامة في كابوس حزين .. هي حقيقة مُرّة .. “لقد فقدناه الآن” .. رغم أني أعيش مع قصائده .. لكني أدرك أنه لن يكتب من جديد ..

لم أكن أرى شيئاً أمامي .. كل شيء غير واضح .. وممتزج بالأسى والشفق .. حالة من الإنفجار الرطب في العيون ..

دخلت إلى حديقة متواضعة حيث الضريح .. كنت وحدي .. لم يكن أحداً في باحة المتحف .. ولا في الشارع .. ولا في الحي .. ولا في المدينة ولا في فلسطين كلها .. كان هو وأنا وحدنا صامتين ..

لم يكن في يدي قصفة “حبق” .. ولا بنفسج ولا سنابل قمح ولا باقة ورد .. لم يكن في كفّي شيئاً إلا حرارة أودعتها فوق الضريح حين لامسته ..

ركعت في حضرته .. سقط رأسي ثقيلاً .. مستسلماً بين كتفي .. وبكيت .. ذرفت دموعاً كثيرة .. بل أجهشت في بكاء كان يُشبه النشيج ..

أعرف أني لم أزورك خوفاً من تلك اللحظة .. أعرف أني حين سمعت خبر وفاتك كنت في الشام .. حينها أحسست بوحدة وغربة موجعة ..

لم أكن في جنازتك … ولا في وداعك .. ولا في تأبينك ..

لم أستطع أن أكون بين الملايين المنتكبة على موتك ..

بقيت وحدي .. عرفت حزني بفقدانك دون أن يستعجلني أحد ..

ألا تُدرك أنك كنت لي مقاماً للأنبياء؟ كانت قصائدك في روحي تُبرعم كنوّار الليمون الذي لا يموت في أرض كنعان ..

فجأة .. تدراكت نفسي .. أحسست ببرد وحرقة شديدة في عيوني الدامية .. رفعت رأسي قليلاً .. شدّني الإنتباه إلى ما كان مخطوطاً على الضريح “ونم يا حبيبي .. عليك ضفائر شعري .. عليك السلام” ..

قرأت المقطع بصوت منخفض مُغلّف ببحّة في حنجرتي .. وابتسامة مُعلّقة بين دمعتي وكوفيتي .. وبعفوية مُطلقة .. أخذت أغنّي “أثر الفراشة” التي سجلتها في ألبومي الأخير “تجليات الوَجد والثورة” .. أحسست براحة .. وبفرح طفيف في الخاصرة .. حملت عيوني المُثقلتَيْن من روحه الراقدة إلى أعلى .. إلى الشمس ..

وإذ بي أرى على الشاهد وقد حُفر عليه هذه القصيدة: “أثر الفراشة لا يُرى .. أثر الفراشة لا يزول .. هو جاذبية غامض يستدرج المعنى .. ويرحل حين يتضّح السبيل .. هو خفّة الأبدي في اليومي .. أشواق إلى أعلى وإشراق جميل .. هو شامة في الضوء تومئ حين يُرشدنا إلى الكلمات .. باطننا الدليل .. هو مثل أغنية تحاول أن تقول وتكتفي بالاقتباس من الظلال ولا تقول”

ابتسمت أوسع من غيمة ماطرة .. كان فرحاً خفياً .. جميلاً .. تائهاً في حالة من التجلّي ..

وعلت خفّة في عيوني .. تحمل القصائد على نبرات صوتي إلى أعلى .. إلى روحه .. حلّقت بشرود معها نحو الشمس ..

شكراً محمود درويش .. لأنك الضوء في نبضنا

من almooftah

اترك تعليقاً