“نحن الفنانون الفلسطينيون أوركسترا، نحن جوقة موسيقية واحدة، لدينا الكثير من الأصدقاء والكثيرون ماتوا، أجسادهم دُفنت في الأرض، لكننا نحملهم في داخلنا، نحن مقبرة متحركة، تحمل كل الأشخاص الذين غادرونا”

مصطفى الحلاج

مصطفى الحلاج ليس مجرد اسم لفنان رائد في سماء الفن التشكيلي الفلسطيني والعربي بل هو انسان تلونت حياته وواقعه ومآسيه كما وطنه فعاش دراما الحضور والغياب وحمل اسمه كصوفي حلّق في فضاء الوطن.

حمل الرؤية الفنية في تلاوينها الحسية والفكرية حيث داعب الأرض والحياة بتفاصيلها وارتجالاتها ولم ينفصل عنها، حمل فنُه كما وصفه “صلابة الرياضيات وضبابية الروح كمعادلة يتيمة الدقة والترنح”.

هو رائد الفن المعاصر والفن الفطري والطباعة والرمزية الأسطورية الغارقة في التاريخ الإنساني كما أنه نحات احترف مصارعة الأسطورة في علاماتها البصرية وبعثها من ثنايا التاريخ، فقد حمل الهم الفلسطيني روحا وتاريخا وشعبا في فنه، بكل تفاصيله التي تعني الأرض الرمز الفكرة الانسان والأسطورة.

فالحلاج لم يكن مجرد ناقل للتاريخ والمأساة بل هو مبتكر للفكرة الغرائبية بكل ما تعنيه كملهاة غابرة في الزمن فقد حمل “فلسطينه” في أفكاره وصوره في شخصيته في تطرفه الجمالي، من مصر إلى بيروت ثم دمشق ليصلها منهكا من حرب لبنان ولكن متشبثا بفكرته بنضاله بفنه بكل الخلود الذي يحفر تفاصيله ليصعّده كملحمة.

لم تكن بيروت محطة عادية في حياته فقد خسر فيها ما يقارب 25 لوحة بسبب القصف الإسرائيلي لكنه تمكن من حمل أنقاضها وبعض أدواته التي كان يستعملها في عمله لتحكي عن تاريخ الغبار والرماد في وطن الأمنيات الضائعة، ليتحول إلى دمشق حيث أكمل بقية حياته، فلم يهدأ حركة ونشاطا وتجديدا.

إذ تجسد أعماله النضال والتاريخ برمزية علاماته البصرية التي استمدها من الأساطير الكنعانية القديمة والحكايات الشعبية ورموز الثقافة الفلسطينية ومن الحضارة الفرعونية والفينيقية.

رسم الحلاج أطول الجداريات بعنوان “ارتجالات الحياة” تعبيرا عن معاناة الانسان والمأساة التي عاشها في حياته والغربة والبعد عن الوطن تهجيرا وسلبا بكل تناقضات المشاعر والحنين بين القسوة والأمل الباقي.

رحيل الحلاج كان تراجيديا حملت الرمزية والملحمة فقد توفي في مرسمه بين لوحاته التي كان يحاول أن ينقذها من الحريق الذي نشب في مرسمه بسبب ماس كهربائي لتنتهي مسيرته كنهاية الحلاج دفاعا عن فكرة ومصير عن تجل إنساني وخلود فني لمدرسة روضت الحزن والمأساة وانتشلت الانسان بكل ما حمل من مشاعر وأفكار.

تميّز الحلاج بالرسم بأسلوب الطباعة والحفر وهو أسلوب رسم مباشر باستخدام أداة يدوية مثل قلم رصاص لتنفيذ التصميم على الورق ثم نقله إلى الحرير لتنقل الصبغة من خلال الفرض المتنوعة أو القطارة وغيرها لنقل صبغة ألوان الحرير ثم يتم وضع التأثيرات المناسبة للتصميم ويتم إنهاء العمل، مع أسلوب الشاشة الحريرية.

تَوَغَل الحلاج في الترميز وأسطرة الفكرة الفنية من كلاسيكياتها الملحمية بكل ما تعنيه من خلود في الذاكرة فقد أنبت الفكرة في تربة لوحته واستنبتها بالفعل الخارق في التاريخ بين الظلال والنور بين المشاعر التي تتراكم فزعا وهلعا خوفا ورحيلا واحتفالا بالأرض والتاريخ فقد قدم تجربة معقدة بجمالياتها تتحمل التآويل التي تفك شيفرة العلامات وتضع المتلقي أمام بحث اركيولوجي يتحمل الموازين الخفيفة والثقيلة في معادلات الأبعاد القيمية للضوء.

تقمص الحلاج شخوصه بكل حالاتها من غضبها وبؤسها من حضورها وتهميشها ومعاناتها تحمل مأساتها في العتمة بحثا عن الذات في التراب في الحكاية وفق التحولات الضوئية والسرديات الخطية والشكلية التي تمتد في تفاعلاتها حسب نفسياتها وحضورها ورؤاه الجمالية الغريبة في مداها الباحث عن خلود الفكرة في بؤر الذاكرة.

فالضوء والظلال محاورات بصرية اقترحها الحلاج على المتلقي ليتحملها بدوره وفق مدلولاتها الفكرية والاجتماعية والموروثات الزمنية بطقوسها في إيماءات ورموز بارزة ومتعددة.

ولا يمكن الحديث عن تجربة الحلاج دون الحديث عن صدى تأثيره على طلبته وأصدقائه الذين التفوا حوله في محترفه تعلموا منه وشاركوه وأكملوا الحكاية ليخلدوها في السرد التشكيلي الفلسطيني العربي والعالمي من خلال الطباعة والحفر الرسم والنحت.

وقد حاولنا تجميع بعض شهادات أصدقاء الحلاج ومن عايشوا تفاصيله عن قرب نبشا في حضور فني خالد الرؤى البصرية بإيقاعات لا تتناهى تفجر العنف الجمالي على شكل أساطير منفلتة من فوضى التاريخ تعوّد ترويضها على موسيقى الذاكرة.

المحاكاة الأسطورية استمرار في تخليد جماليات البحث والتجدد

إن علاقة الحلاج بالمحيطين به لم تكن مجرد علاقة تواصل سطحي بقدر ما هي حفر في عمق الحضور وترسيخ لقيم الجمال والموقف الإنساني الذي يعمق بدوره البناء التشكيلي ويترك آثاره خالدة مستمرة تماما كالأسطورة في التاريخ.

فكل من عرف الحلاج لا يمكن إلا أن يذكر إنسانيته وذكاءه الفني وصدقه في تبني قضية وطنه وبحثه المتجدد في ثنايا التاريخ كعالم آثار يبحث عن اليقين في حجر.

معتز العمري التشكيلي الفلسطيني يقول عن تجربته معه “قضيت مع الحلاج في مرسمه عامين من سنة 2000 إلى سنة 2002 حيث وافته المنية في مرسمه بين لوحاته فرغم أن فرصته للنجاة بحياته كانت متاحة إلا أن إصراره على محاولة إنقاذ أعماله الفنية وجداريته  أدت إلى اختناقه ووفاته فهي جزء منه لا تنفصل عنه ولا عن مواقفه وتاريخه، في مرسم الحلاج تعرفت على الحفر عن كثب وبدأت محاولاتي الأولى أذكر أنه قال لي حينها “أول الرقص حنجلة” وهو ما حفّزني للاستمرار في هذا الفن خاصة بعد ما رأيته من أعماله الحفرية التي بهرتني بدقتها وجمال الإحساس فيها فقد أثرت رؤيتي الفنية وأغنت ذاكرتي البصرية وفي مرسمه “صالة ناجي العلي” كنت أنا وصديقي الفنان حسن أبو صبيح والفنان أحمد خليف نطبع أعمالا من أجزاء لوحته الجدارية، استفدت من الحلاج في رؤيته الفنية للعمل وكيفية معالجته لتلك الرؤى، وفي مرسم الحلاج كانت الفرصة متاحة لإجراء العديد من التجارب الفنية في تقنيات الحفر المختلفة واستخدام خامات متنوعة للحفر والطباعة للحصول على نتائج مدهشة كانت تسعد الحلاج وتعطينا دفعا لتقديم المزيد وقد أثرت تلك الفترة على إنتاجي الفني بالمراحل المتقدمة من تجربتي وجعلتني أكثر جرأة على التجريب والاكتشاف الجديد وتطوير عملي الفني من خلال ما اكتسبته من معرفة ومشاهدة لأعمال مصطفى الحلاج كان مرسمه بمثابة أكاديمية للفنون فهو انسان محب للجميع وللفن له مزاج فني عال وقدرة كبيرة على الإنجاز والبحث والتركيز لأعمال ناجحة وجميلة تحمل البعد الإنساني وقضية فلسطين بكل نواحيها فقد كان فنانا ملتزما بقضيته وكنا نقدّر هذا عاليا لاننا ملتزمون أيضا بقضيتنا وبحب الأرض والذاكرة والتاريخ وإنتاج أعمال تحمل الهم الفلسطيني”.

أما الفنان التشكيلي حسن أبو صبيح الذي درس فنون الحفر والطباعة اليدوية ودرس التصوير الضوئي والتلفزيوني والخزف فقد لازم الراحل الحلاج متعلما ومساعدا في مرسمه الفني من سنة 1997 إلى سنة 2002  ساعده على الطباعة والحفر خاصة الجدارية الشهيرة “ارتجالات الحياة” عن هذه التجربة  يقول “كان للحلاج ولايزال الأثر الواضح عليّ في انتقاء الفكرة وإنتاج الأعمال الفنية قربنا منه جعلنا نتأثر به ونقتبس منه ونمشي على خطاه فهو الذاكرة المعاصرة التي استمرت منذ قرون خلت، اسقاط الفنون القديمة المتتابعة في لوحاته كان لها كل الامتداد من وقتها إلى وقتنا، فقد صاغ لنا خارطة زمنية وأوقعنا في مشاهدها فكرة ورمزا وسردا ومرجعيات علّمتنا كيف نتعاطى مع الزمن ونحن نخوض واقعنا ونعبر عن ذواتنا، الحلاج تعلمت منه الكثير قال لي “أنت الآن تحمل أمانة أثقلت كاهلي أرحتني يا حسن لا تضعها إلا في مكانها المناسب”.

*جدارية “ارتجالات الحياة”

عن صداقته مع الحلاج يقول التشكيلي السوري *”موفق قات”، “عندما تحدثنا عن “ارتجالات الحياة كان يقول لم ننته بعد فلا توجد لوحة منتهية اذ يحترق الفنان ولا تنتهي لوحته، اشتركت مع الحلاج في أكثر من سيمبوزيوم وفي كل مرة كان يفرض نفسه كقبطان للسفينة إذ يوجه الحديث نحو العمق، مواقفه تلخص دولا وأحزابا وتنظيمات، كلماته الفنية ساخرة ولكنها تعكس الجمالية التي لم تقدر أي دولة أو تنظيم وحزب أن تؤطرها لأنه كان حرا فقد خسر العالم وربح نفسه صدقه ومواقفه فمن يعرف الحلاج لابد وأن يعرف الألوان وآلية عمل الخيال فيتجاوز المعارف المنحطة الخجولة ليقترب من آفاق بكر بعيدة وجديدة.

أما *محمود خليلي الممثل والرسام الفلسطيني فيقول “لم تكن البداية باللقاء المباشر الأول مع الحلاج ولكن مع بداية علاقتي بالفن التشكيلي فبديهي أن تفتح عينيك على أسطورة في التشكيل العربي اسمها الحلاج بعلاماتها ورموزها الصاخبة خيول ديوك رجال ونساء وأطفال حفر ونحت وتصوير وحضور آسر في مستويات تقنية مختلفة، عندما توجهت إلى دمشق لدراسة الفنون التشكيلية كان حلمي الأول اللقاء بهذه القامة التشكيلية الكبيرة وكانت تتملكني رهبة من نوع خاص أسئلة كثيرة ووهم أكبر ولكن منذ اللحظة الأولى في اللقاء يزيل وهمك ويفك حصار رهبتك ويحررك من كل قيد فتجد نفسك أمام انسان من طينتك قريب منك ببساطته وتبقى فلسطين سيدة الحضور في حديثه تسكن روحه وعقله وقلبه وفنه وتدرك أنك أمام فنان موسوعي”.

لقد تمكن الحلاج من أن يرسخ حضوره رغم الغياب ويطبع بداخل كل من عرفه أسطورة تحكي تاريخه وتتمرد لتخوض ثورة ضد النسيان، لأن فلسطين في أعماله ليست تلك الصورة المباشرة أو النمطية المتعوّد عليها في تسجيلية تسرد قصة شعب طرد من أرضه وبقي أمام تناقضات المقاومة والسلام بين تأرجح الجغرافيا ومؤامرات التاريخ، فقد خرج من رحم كل تلك الفوضى ورتبها بعمق مواقفه من ذاكرة التاريخ، فقد بسط ذاته كانسان فلسطيني مهموم بالمكان متألّم من وجع الشتات والرحيل والمنافي مجسّدا خياره ومواقفه الفلسفية المتوارية خلف الرموز ضمن مؤشّرات لونيّة تعكس وجع الفاجعة من خلال بناء معماري لشكل المنجز الفني وتكوينه مركّزا على الإنسان الفلسطيني الثابت في عمق تاريخه وجغرافيته وإنسانيته فهو يعكس التأرجح بطريقته، في عناق يدمج الهوية والانتماء والانحياز للذات الوجودية ضمن فسيفساء المجتمع الإنساني المحب دون تبعيّة.

فأعماله لا تفارق مكانها ولا زمانها في تعبيرها عن الذات الفردية المقاومة ببناء يخلق بيانا بصريا في صور تراجيدية حافلة لتجسّد ملحمة فكرية بصرية جمالية أوجدت له لغة منقوشة ومخطوطة بثنائية تناقض لوني أبيض أسود وأخاديد فنية تشكيلية توازنت انفعاليا.

*زكريا الابراهيم “مصطفى الحلاج الرؤية في اارتجالات الحياة” دبي الثقافية يوليو 2010

 *الأعمال المرفقة

لوحات مصطفى الحلاج متحف فرحات الفن من أجل الإنسانية

Farhat Art Museum Collections

 صورة لجدرية الحلاج “ارتجالات الحياة” من موقع مؤسسة فلسطين للثقافة

من almooftah

اترك تعليقاً