هل غربته  غربة جسد أم غربة نفس وروح؟ وهل للإبداع عمر يقاس بالسنين ؟

إن كانت قيثارة تونس الخضراء قد سكنت , فإن صداها مازال يملأ الأفق , ولولا رجع الصدى , لما اجتمعنا الآن لنسمع  معزوفة شجية من أنغام تلك القيثارة, ولكن أيّةُ  أنغام ؟

إنها أنغام الغربة , غربة الشاعر أبي القاسم الشابي , ولكن ليست غربة الجسد في البلد ,  وإنما الغربة الداخلية , إنها أوقعُ في النفس , وأشد مرارة من غربة السفر بعيداً عن الأهل والأخلاء , لذا كانت أنغاماً شجية حزينة ملؤها اللوعة من الأسى والمرارة بهذه الكلمات بدأ الأستاذ في جامعة البعث الدكتور صبحي قصاب  محاضرته “غربة الشاعر أبو القاسم الشابي ” في مديرية الثقافة بحمص المركز الثقافي العربي , سنقتطف منها جزء صغير .

تناول قصاب في محاضرته سيرة حياة الشاعر حيث نشأ في الشابية في تونس , وتربى في بيت علم فوالده من خريجي الأزهر ,حفظ  الشابي  القرآن الكريم في التاسعة من عمره حاز على شهادة التطويع من جامع الزيتونه بعمر الثانية عشرة,وهي أعلى شهادة تمنح لخريجي جامع الزيتونة ,ثم تخرج من مدرسة الحقوق التونسية , أصيب بداء تضخم القلب في الثانية والعشرين من عمره وسمي بشاعر الحرية وشاعر الحزن , شاعر الآلام , الشاعر الرومانتيكي , شاعر الغربة.

وأكثر ما يثير الاستغراب أن الشابي لم يتجاوز الخامسة والعشرين من عمره عندما وافته المنية .

لم يكتفي الشابي بالتعبير عن غربته بالألفاظ ,وإنما كان يتمنى أن لا يكون قد أتى به القدر فقال :

ليتني لم أفدْ إلى هذه الدنيا         ولم تسبح الكواكبُ حولي

ليتني لم يعانق الفجرُ أحلامي      ولم يلثم الضياء جفوني

وإن تراتيل الغربة ملأت ديوانه الشعري , فإن جانب النثر الذي صرح به يقول : “الآن أدركت أني غريب بين أبناء بلادي , وليت شعري ,هل يأتي ذلك اليوم الذي تعانق فيه أحلامي قلوب البشر …”

وكان واثق من انتصار ثورة شعبه على الطاغي المستبد :

تأمل !هناك أنى حصدت    رؤوس الورى وزهور الأمل

ورويت بالدم قلب الترابِ   وأشربته الدمعَ حتى ثمل ْ

لقد سئم شاعرنا الحياة لأنها مملوءة بالخداع لا تجيبه عما يطلبه :

ملئ الدهر بالخداع فكم قد       ضلل الناس من إمام ٍ وقسٍّ

وقد لعب عدم فهمِ الكونْ دوراً في غربته وكان من الأجدى عدم فهم نفسه التي تشكل جزءاً من هذا الكون الفسيح سبباً أيضاً :23517431_1950269645242481_3797739055112402626_n

عجباً لي! أود أن أفهم الكونَ        ونفسي لم تستطع فهم نفسي

واختتم المحاضرة قصاب بقوله: بأنه على الرغم من قصر عمرالشاعر أنني أعده كاملا على عكس ما ذكرته الباحثة سعاد أبو شقرا التي أثنت عليه كثيراً في مقالها إلا أنها قالت :

“لو أن القدر كان حكيما لم يتصد للشباب الغض ولم يسكت القيثارة الشجية , لكان اللحن الذي بدأه الشابي قد تم ّ”

ويقول قصاب : هل هناك أجمل وأتم من اللحن الذي عزفته تلك الأنامل المفرطة في رهافة حسها ؟! ولم يكتمل تخليده وله بيتاه المشهوران :

إذا الشعب يوماً أراد الحياة      فلابد  أن يستجيب القدر

ولابد لليل أن ينجلي             ولابد للقيد أن ينكسر

الذي أصبح شعاراً حيث ترجم إلى اللغة اليابانية وحمل شعاراً في طوكيو عاصمة اليابان , ورددته جميع حناجر الشعوب المضطهدة المناضلة .

وقد أمتعنا المحاضر بسرد مفصل عن سيرة حياة الشابي  حيث كانت المحاضرة غنية بالمعلومات والكثير من شعر الشابي الذي يلامس شغاف القلب , فلمسنا الحزن الكامن بين كلماته ووصلنا ماعاناه من آلام  فطيب الله ثراه وأدخله فسيح جنانه .

 

اترك تعليقاً