عبده وازن

صدور رواية (تحليل دم) يثير قضية انتقال بعض الشعراء الى حقل الرواية, وهي قضية ما زالت شائكة ومثاراً لسجال نقدي وأدبي.

قد لا يكون عنوان رواية عباس بيضون (تحليل دم) (منشورات رياض الريس 2002) غريباً عن الجو الذي تجرى فيه وقائع هذه السيرة الذاتية التي يسردها الراوي او يكتبها عباس بيضون نفسه مرتدياً قناع الراوي. فالدم الذي لم ترد أي اشارة عن خضوعه للتحليل في الرواية هو دم مجازي تماماً مثل التحليل الذي شرع به – مجازياً – الراوي او ربما عباس بيضون. فالراوي لا يروي سيرته الذاتية في معناها المباشر بل سيرة العائلة انطلاقاً من الأب وانتهاءً به. لعله دم الأب يخضعه الراوي للتحليل – مجازياً أيضاً – ليدرك اي دماء تجرى في عروقه. فدم الأب يعني ايضاً دم الأم ودم العمّ والعمّة وكذلك دم النسوة وبعض الأقارب والأصدقاء الذين جعلهم الراوي في دائرة العائلة. على ان (تحليل) الدم لن ينتهي إلا في ما يشبه الوشاية او الفضيحة. فكتابة الراوي – الابن هي على خلاف كتابة الأب, لا تبالي بالمعاني المعجمية الجاهزة مقدار ما تخترق المخبوء او المستتر والسرّي في تلك الحياة التي عاشها الأب وعاشتها الأم ثم العم والعائلة.

قد يخيّل للقارئ ان الرواية هي رواية العم نظراً الى الهاجس او (الهوس) الذي يمثله العم في هذه السيرة. والراوي يعترف في الختام الذي ليس ختاماً روائياً تقليدياً بأنه وضع نفسه مقابل عمه لا أبيه. لكن الأب سيحضر مقدار حضور العم وربما اكثر حتى وإن غدا العم شخصية نافرة وربما رئيسة في السيرة.

من عادة الروايات ان تضع الأب في مواجهة الابن او العكس, إذ غالباً ما يسعى الأب الى قتل أبيه أوديبياً أو رمزياً عملاً بمقولة سارتر الشهيرة مثلاً: (ليس من أب صالح. لقد أتلف وثاق الأبوّة). لكن الراوي يضع الأب والعم في مرتبة واحدة من غير ان يسعى الى قتلهما ولا الى مديحهما. بل إن انحيازه غير المعلن الى شخص العم قد يندّ عن موقف سلبي من الأب, إذ ان العم بدا كأنه ابن آخر للأب الذي هو والد الراوي بالدم. فالأب الذي كان يشبع أخاه (أي عم الراوي) ضرباً في صغره مسمّياً إياه من قبيل السخرية (كيس لحم) او (ماكنة اكل) ظل على علاقة ملتبسة به حتى بعدما كبر كلاهما. قد لا يكون بينهما حقد او بغضاء ولكن علاقتهما لم تتضح لأنها غامضة في طبيعتها. فالأب الذي كان يستصغر أخاه (العم) ولا يراه موجوداً حزن كثيراً حين ورد خبر وفاته ووقع في الحداد مثل امرأته وأخته (عمة الراوي). ولعل اختلاف العم عن الأب كان سبب ذلك الجفاء الطويل: كان العم نقيض الأب تماماً منذ الصغر. فعندما توفيت والدتهما اعتبر (الأب) وحده يتيماً فيما (أخوه السمين لم يشعر احد بيتمه). اما عندما كبر الأخ فكان ذلك المغامر الذي لا يهاب امراً, يهرّب, يتاجر, يدمن, يعشق النساء ولا يخشى الفضائح التي كانت تهز أباه وأخاه … وعندما هاجر الى داكار عاش حياته كما لو أنه يحيا مغامرة سافرة: عمل وسهر وعشق وميسر وبطالة وخسائر لا تحصى…

بدا الراوي (او الكاتب) مأخوذاً بشخص عمّه ذاك الذي مات ميتة غامضة لم تحسم تماماً على رغم اصرار العمة انه مات نتيجة خطأ طبي في افريقيا. بل بدا مسحوراً به ومهووساً بأسراره التي راح يستخلصها من بعض العشيقات اللواتي عرفنه وأحببنه وأقام معهن علاقة حميمة, وفي مقدّمهن: صفيّة وأمينة … وعندما ضاجع الراوي صفيّة – الشاهدة على شخصية العم ونزقه – لم ينثنِ عن القول: (لقد اشتبك هنا دمه ودمي حتى لم يعد غريباً ان يوجد تقريباً في كل دفعة تدقّني اكثر في احشائها). وقد يكون انجذابه اليها – هي عشيقة العم السابقة – انجذاباً الى الصورة التي يمثلها عمّه المجهول في طويّته. وهو لم يخجل من ان يسأل صفية لدى مضاجعته إياها عن عمه من غير ان يدري لماذا يسأل عنه. ويقول في هذا الصدد: (لا ادري اذا كنت ابحث عنه ام عن صفية ام عن أبي). انه المثلث الذي يتخبط الراوي بين زواياه الثلاث: سلطة الأب, صورة العم المستعادة عبر الجنس, العشيقة التي جعلته يكتشف رجولته. ونكاية ربما بأبيه يقول الراوي عن عمّه: (لطيف حقاً, كان عمّي لطيفاً).

أما الأب, وإن كانت صورته قاتمة او سلبية, فهو حاضر كالعمّ بل أشدّ حضوراً منه. فالأب كما يعترف الراوي, هو الذي (سجننا في قصة طويلاً ثم لما كبرنا خرجنا منها). وعندما مات الأب يعترف الابن ان قصته بدت (كأنها لم تكن في الأصل). لكن نفي قصة الوالد (او سجنه الرمزي) لا يعني ان الأب كان مجرد صورة. وهذا النفي لن يعني كذلك ان الابن يكن له الكراهية او البغضاء على غرار انطونان آرتو مثلاً الذي وجد في والده رمزاً من رموز (القسوة) إذ يقول: (عشت سبعاً وعشرين سنة مع بغضاء الأب الغامضة ورأيته يموت). إلا انه لن يتحاشى بعض (التظلّمات) التي عرفها كافكا إزاء أبيه (رسائل الى الأب) فهو يجاهر بأنه كان أقل الناس دراية بأدب أبيه, ساخراً من الآخرين الذين كانوا يسمّون والده بـ(أديب المدينة). ولا يخشى الراوي الاعتراف بأن كتب والده لم تفده كثيراً في التعرّف الى أبيه, (فهي مثله لا تخبر إلا القليل). ولعل مطالعته الأدب القديم جعلته (متيناً وصلباً ومتراصاً الى حد يمنع التنفّس). ويمضي الابن في فضح بعض مآخذه (المضمرة) على أبيه معلناً ان مقالات والده عن (أولية العرب) أغضبته مقدار ما كانت تغضبه رسائله المكتوبة إليه بـ(كلمات قاموسية وأسلوب فخم يخنق المعنى).

إلا ان المثالب التي اعترت علاقة الابن بأبيه لم تدفعه الى تجاهله فهو لن يلبث ان يرسم له صورة شبه ميثولوجية جاعلاً منه كائناً مختلفاً (لم يكن اكثر من زائر لعالمنا). فالأب الذي, بحسب الابن, (ولد تحت برج الصبر) بدت وفاته في حادث (عقاباً على هذا الحداد الذي طال كثيراً وكأنه باب مفتوح دائماً للموت). انه الأب المكتئب الذي يشعر بـ(الغثيان) (الوجودي?) يملأ قلبه وعقله وليس جسده فقط. وخوفه – اقصى خوفه – ان يفقد صور الأحباب من ذاكرته البصرية كلما رحلوا مثلما ضيّع صورة والدته حين علم بوفاتها. وحين وصله نبأ أخيه (أحس مجدداً بالخوف من ألا يجد بعد صورة له في نفسه). انه الأب الذي يعيش حياته ميتاً أو (منسياً من الموت). وعلى رغم تلك الصورة الشخصية الكالحة يعترف الراوي انه طالما كان يحتاج الى صوت أبيه لينام.

وإذ يحضر الأب والعم, تحضر الأم ايضاً وهي ليست غريبة عن الأب. انها الأم والزوجة الصالحة التي هدّها حزن زوجها, ولم تكن الحياة في نظرها إلا فروضاً ثلاثة: فرض الأمومة, فرض الزواج وفرض الحداد. لكنها في الحين عينه كانت (طبيبة الحيّ وربما عرّافته) ولم تكن تثق بأحد هي ابنة احد الوجهاء القرويين. ومثلما تحضر الأم تحضر العمّة الكبرى ابنة السبعين التي صانت عذريتها, ويحضر كذلك طيف العمة الصغرى فريال التي جنّت بعدما هربت مع جندي وماتت في المصحّ. ويحضر الجد ايضاً وموسى الذي اصبح يهذي بعدما وقعت عليه شجرة وبعد حياة عاصفة في افريقيا … ويحضر علي شرف والد صفية بصورته (الغرائبية) وسارة (أم صفية) التي قضت قتلاً وأمينة والغاوي واخته والقاضي … وهؤلاء جميعاً أشبه بالأطياف التي يلمّ الراوي بملامحها وقصصها ويتدخل في حياتها وينقل أحياناً تفاصيل كثيرة من سيرتها الى حد يتساءل القارئ: هل من الممكن ان يسهم الراوي في (تأليف) او (سرد) مثل هذه السير والحيوات والقصص?

قد لا يجوز الدمج بين الكاتب والراوي وإن بدت الرواية اقرب الى السيرة الذاتية التي يسردها الراوي او الكاتب مستخدماً قناع راويه. انها سيرة (مقنّعة) يتشارك في كتابتها او يتواطأ على كتابتها المؤلف والراوي معاً. وخلوّ (السيرة) هذه من بعض المرجعيات الواقعية المحددة وإغراقها احياناً في جو فانتازي (السحر, الطقوس الافريقية, الغابة…) استطاعا ان يقرّباها من السرد الروائي على رغم نفور (الأنا) وسيطرة (وجهة النظر) الكاتب – الراوي على مجريات السرد وعلى الوقائع والشخصيات والتفاصيل التي أحاطت بها جميعاً. وإن كانت السيرة الذاتية بحسب احد المنظّرين المهمّين لها وأقصد الناقد الفرنسي فيليب لوجون (حكاية استعادية من النثر تصنع منها شخصية حقيقية وجودها الخاص, مركّزة على حياتها الفردية), فإن هذه السيرة تنطلق من الأنا لتشمل الأسرة وبعضاً من تاريخها العائلي وبعضاً من محيطها كذلك. فهي سيرة الراوي من خلال سيرة الأب والعم وسواهما من الشخصيات الحقيقية والطيفية. واعتمد عباس بيضون تقنية التوازي في البناء ولعبة التقطيع عوضاً من ان يرتكز على البناء الكرونيكي او الحدثي او الزمني. فالسيرة المفترضة لا تخضع الى تنامٍ في الحدث (وهو اصلاً اضحى في صيغة الماضي او الذكريات) ولا الى تصعيد درامي. فما حصل حصل وما يُهيّأ انه يحصل كان حصل بدوره ومنذ ازمنة مختلفة. ولعل الطابع الاستعادي للحكايات والقصص والشخصيات أوقع بعض الفواصل في بعض الغموض الفانتازي او الغرائبي, وبدا الراوي في احيان كأنه مثقل بما يحمل من قصص الآخرين وطرائفهم.

هل هي حكاية الأب ام حكاية العم او حكايتهما معاً مشفوعة بحكاية الأم والنسوة الأخريات والشخصيات الأخرى? وعلى خلاف ما قال أبولينير يوماً: (لا يستطيع المرء ان يحمل معه في كل مكان جثة الأب) يحمل عباس بيضون أو راويه لا (جثة) الأب بل صورته النقية التي لم يؤثر فيها ذلك الغموض او القتام الذي اعتراها. فهو وجد نفسه حيال الأب كما لو أنه حيال (حياة صامتة) ولم يحسن له إلا ان يتتبّعها كـ(الأعمى).

الحياة
(23/7/2002 )