طواحين الورق

أدب ما بعد الحداثة

التلقائية والصدفة والتهكم والمعنى المراوغ أبداً

 فوزي محيدلي

يميل تعريف أدب ما بعد الحداثة إلى توصيف مزايا معينة في النتاج الأدبي لمرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، راسماً ايضا ردة فعل ضد افكار عصر التنوير الكامنة في أدب حركة الحداثة.

من الصعب تعريف أدب ما بعد الحداثة، تماما مثلما هي الحال بالنسبة لتعريف “ما بعد الحداثة” بحد ذاتها وثمة اتفاق غير كبير على المزايا الدقيقة، وعلى المجال، وعلى أهمية أدب ما بعد الحداثة، لكن كما هي الحال مع باقي الحركات الفنية، فان هذا الأدب غالباً ما يعرف ضمن العلاقة مع الحركة التي سبقته، وهي “الحداثة”. على سبيل المثال بدلاً من السعي الحداثوي وراء المعنى ضمن عالم مشوش، يتجنب كاتب ما بعد الحداثة بحصافة، غالباً، امكانية وجود المعنى، ولذا تميل رواية ما بعد الحداثة لتكون محاكاة تهكمية لهذا السعي ذاك أو البحث وراء المعنى. ويميل الكتاب ما بعد الحداثيون ايضا الى الاحتفاء بالصدفة مقابل الصنعة ويستخدمون الكتابة عن الكتابة في مسعى تفكيكي لاضعاف سلطة الكاتب. وثمة ميزة أخرى لأدب ما بعد الحداثة هو التشكيك بالفوارق بين الثقافة العالية والهابطة عبر استعمال ما يشبه الالصاق” او الانتقاء من أعمال لمؤلفين آخرين، كما مزج مواضيع وأنواع أدبية كانت تعتبر فيما سبق غير مناسبة للأدب.

يشير كتاب ما بعد الحداثة غالباً الى روايات ومجموعات قصصية مبكرة كعامل اسهام لتجاربهم في تقنيات السرد والمبنى.

يستحضرون مثلا “دون كيشوت”، الف ليلة وليلة” “ديكاميرون” و”كانديد”. ويرى البعض أن رواية لورانس سترن “حياة وآراء تريسترام شاندي” (1759″ بتشديدها على المحاكاة التهكمية (الباروديا) والتجريب السردي كتأثير مبكر على ما بعد الحداثة، هذا وثمة في اعمال القرن التاسع عشر العديد من التهجم على مفاهيم التنوير، وقائمة على الباروديا، وتتضمن منحة التلاعب في الأدب بما في ذلك نفحة السخرية لدى اللورد بايرون في عمله “دون جوان”، وتجارب لويس كارول التلاعبية على المدلول، وكذلك في بعض أعمال الشاعر آرثر رامبو وأوسكار وايلد، وايضاً الكتاب المسرحيين الذين عملوا في أواخر القرن التاسع عشر وبواكير العشرين مثل السويدي أوغست ستريندبيرغ والايطالي لويجي بيرانديللو والألماني برتولت بريشت، التي تخدم افكارهم وأعمالهم كمثال لا شك فيه على تاثيرات جمالية ما بعد الحداثة. في العقد الأول من القرن العشرين احتفى الفنانون الذين حسبوا على الدادئية بالباروديا، الصدفة، اللعب، كما تحدوا سلطة الفنان. في مقال له بعنوان “كيف تنظم قصيدة دادئية” قال تريستان تزارا انه من اجل ابتكار قصيدة دادائية ما عليك سوى وضع كلمات عشوائية داخل قبعة ومن ثم سحبها واحدة اثر الأخرى. وثمة طريقة أخرى اثرت من خلالها الدادئية بأدب ما بعد الحداثة كانت في ابتداع بل تطوير “الكولاج”، لا سيما الكولاجات المستعملة في الاعلانات أو الرسوم التوضيحية أو التزيينية المستلهمة من روايات شهيرة (كولاجات ماكس ارنست على سبيل المثال). بدورهم تابع فنانو السيريالية التي ولدت من رحم الدادائية التجريب على الصدفة والباروديا اثناء احتفائهم بتداعي اللاوعي. وقد اقترح أندريه بروتون، مؤسس السيريالية، ان التلقائية ووصف الاحلام يجب ان تلعبا دوراً أكبر في ابتداع الأدب. وقد استخدم التلقائية لكتابة روايته “نادجا” واستخدم الصور الفوتوغرافية لاستبدال الوصف وذلك كمحاكاة تهكمية (باروديا) للروائيين المغرقين في الوصف الذي غالبا ما انتقدهم كما وان استعمال السيريالي رينيه ماغريت التجريب على المدلول اخذ كمثال من قبل كل من جاك دريدا وميشال فوكو. كما واستخدم فوكو امثلة من الارجنتيني خورخي لويس، ما شكل تاثيراً مباشراً مهماً على العديد من روايات وقصص ادب ما بعد الحداثة. ويصنف بورخيس أحياناً كما بعد حداثوي رغم انه بدأ الكتابة في عشرينات القرن العشرين. هذا ولم يحدث ادراك كامل أو ملحوظ لتأثير تجريبه على مفهوم “الكتابة حول الكتابة” والواقعية السحرية في العالم الأنغلو ـ أميركي إلى أن ترسخت ثقافة ما بعد الحداثة.

من الحداثة الى ما بعد الحداثة

يشكل كل من أدب الحداثة وما بعد الحداثة عملية كسر مع واقعية القرن التاسع عشر. من حيث تطور الشخصية فان كلاً من أدب الحداثة وما بعد الحداثة يستكشف مسألة الذاتية، منعطفاً من الواقع الداخلي للشخصية لفحص الحالات الداخلية للوعي، سائراً في الكثير من الحالات على الأمثلة الحداثوية الحاضرة في تيار “تداعي الافكار” لفرجينيا وولف وجيمس جويس، أو القصائد الاستكشافية الريادية مثل “الأرض اليباب” للشاعر ت.س. إليوت. إلى ذلك يعمد كل من الأدبين الحداثوي وما بعد الحداثوي إلى استكشاف التشظي التجزئي داخل السرد وبناء الشخصية. وينظر الى قصيدة “الارض اليباب” على كونها إحدى رسائل التمييز بين الأدب الحداثوي وما بعد الحداثوي. القصيدة متشظية وتستعمل “تناص” التعددية النوعية والاسلوبية كما معظم أدب ما بعد الحداثة، بيد أن المتكلم في “الارض اليباب” يقول، “هذه الشقف استعملتها دعامة لخرائبي”. ينظر أدب الحداثة إلى التشظي والذاتية المفرطة على ان الواحدة منها أزمة وجودية، أو نزاع داخلي فرويدي، مشكلة يجب حلها، وينظر إلى الفنان على أنه الذي عليه حلها. من جهتهم يرى ما بعد الحداثويين غالباً ان هذه الفوضى لا تذلل. الفنان عاجز والملاذ الوحيد مقابل “الخراب” هو اللعب داخل الفوضى. الدعابة موجودة داخل أعمال حداثوية كثيرة (عمل جيمس جويس “يقظة الفينيغانس” أو عمل فيرجينيا وولف” أورلاندو”، على سبيل المثال لا الحصر) وقد تبدو هذه الأعمال كثيرة الشبه بالأعمال المابعد حداثوية، لكن الدعابة اللعوب تصبح مع ما بعد الحداثة مركزية وتغدو هي الانجاز الحقيقي للنظام بل الانتظام، والمعنى غير محتمل الحدوث.

كما مع باقي الحقبات الأسلوبية، ليس ثمة تواريخ محددة لصعود سقوط شعبية ما بعد الحداثة. يعتبر عام 1941 الذي توفي فيه كل من الروائي الايرلندي جيمس جويس والروائية الانكليزية فيرجينيا وولف على أنه حد ضبابي لبداية ما بعد الحداثة.

البادئة أو أداة السبق “ما بعد” قد لا تنطوي بالضرورة على حقبة جديدة، بدلا من ذلك وعلى الأصح يمكن ان تدل على ردة فعل ضد الحداثة في اعقاب الحرب العالمية الثانية بما انطوت عليه من مخالفة لشرعة حقوق الانسان، التي لم يكن قد جف حبر الاعتراف بها في اتفاق جنيف، وعبر دك هيروشيما وناكازاكي بالقنبلة الذرية، والهولوكوست، ومعسكرات الاعتقال اليابانية الاميركية. وقد تنطوي ايضا على ردة فعل تجاه احداث مفصلية لما بعد الحرب: بداية الحرب الباردة، حركة الحقوق المدنية في الولايات المتحدة، والكولونيالية (أدب ما بعد الكولونيالية)، وبزوغ فجر الكومبيوتر الشخصي (رواية السبرنيطيقا).

هذا لا يمنع البعض من ان يحاججوا ان بداية أدب ما بعد الحداثة يمكن ربطه باصدارات أو أحداث أدبية مهمة وذات دلالة. على سبيل المثال يؤرخ البعض لبداية ما بعد الحداثة مع أول اصدار لعمل جون هوكس “آكل لحم البشر” عام 1949، والأداء الأول لمسرحية “بانتظار غودو” عام 1953، أو حتى الاصدار الأول لقصيدة “عواء” (لغينسبيرغ) عام 1956 أو “الغداء العاري” عام 1959. ويربط البعض البداية بلحظات تاريخية في النظرية النقدية، من مثل محاضرة جاك دريدا عام 1966 بعنوان “التركيب، العلامة واللعب” أو من استعمال إيهاب حسن للمضون في عمله “تقطيع أورفيوس” عام 1971. من جهته يسهب براين ماكهيل في فرد أطروحته بخصوص هذه النقلة إلى ما بعد الحداثة موضحاً أنه رغم تطور العديد من أعمال ما بعد الحداثة من رحم الحداثة، تتميز الحداثة بعامل إبستمولوجي مسيطر فيما تهتم أعمال ما بعد الحداثة وبشكل اساسي بعلم الوجود بل الانطولوجيا.

قامات انتقالية

مع أن ادب ما بعد الحداثة لا يشير إلى كل ما هو مكتوب في مرحلة ما بعد الحداثة، فان العديد من تطورات ما بعد الحرب (الثانية) في الأدب (مثل مسرح العبث، “جيل البييت”، والواقعية السحرية) لها مثيلات بارزة.

يجري تصنيف هذه التطورات أحياناً وبشكل جماعي على أنها “ما بعد حداثية. وينظر بشكل عام الى بعض القامات المفصلية (صموئيل بيكيت، خوليو لويس بورخيس، خوليو كورتازار وغابرييل غارسيا ماركيز) كمقدمين أساسيين الى جهد الجمالية ما بعد الحداثوية.

كما وأدى عمل كل من مجاوري السيرياليين، أنطونين آرتو ولويجي بيرانديللو وغيرهم الى التأثير على مسرحيات تنتمي الى مسرح العبث. عبارة “مسرح العبث” صاغها مارتن ايسلين لوصف اتجاه داخل المسرح في خمسينات القرن الماضي وقد نسبها الى مفهوم ألبير كامو بخصوص العبث. ثمة موازاة بين مسرحيات العبث وروايات ما بعد الحداثة في العديد من الطرق. على سبيل المثال “المغنية الصلعاء” لأوجين يونسكو عبارة عن سلسلة من الكليشيهات مأخوذة من كتاب للغة.

ولعل واحد من أهم الشخصيات التي يمكن تصنيفها بانتمائها للعبث وما بعد الحداثة هو صموئيل بيكيت. ينظر غالباً الى عمل صموئيل بيكيت على كونه معلما للانتقال من الحداثة الى ما بعد الحداثة في الأدب. لديه روابط وثيقة بالحداثة بسبب صداقته مع جيمس جويس. لكن هذا لا ينفي ان عمله ساعد في تشكيل تطور الأدب بعيداً عن الحداثة. احتفى جويس، أحد امثلة الحداثة بامكانيات اللغة. وقد تراءات لبيكيت في عام 1945 احدى الرؤى التي تقول انه بهدف الهروب من شبح جويس عليه التركيز على فقر اللغة وعلى الانسان ككائن فاشل. أعماله اللاحقة عكست كذلك شخصيات علقت في مواقف لا خلاص منها مع محاولتها بوهن تحقيق تواصل، ملاذه الأخير هو اداء يخرج منها افضل ما لديها.

يقول هانس ـ بيتر واغنر عن بيكيت، “إنصب اهتمامه على ما رآه استحالات في الأعمال السردية (تحديد الشخصيات، الوعي الموثوق به، التعديل بل الثقة باللغة ذاتها، والتشديد على الأدب ضمن أبواب أو أنواع) أدت تجارب بيكيت على شكل السرد وعلى تحلل السرد وتفسخ الشخصية داخل الرواية والدراما الى اكسابه جائزة نوبل للأدب عام 1969.. عمد عمل بيكيت الأخير الذي نشر خلال حياته “المثيرات الساكنة” 1988 الى كسر العوائق بين الدراما، والرواية والشعر مع كون نصوص هذه المجموعة تتألف بالكامل تقريبا من اصداء وتكرار لأعماله السابقة.. شكل (بيكيت) بلا شك واحداً من آباء حركة ما بعد الحداثة في الرواية بل العمل السردي، التي تابعت زلزلة افكار الانسجام المنطقي في السرد، وخريطة الحبكة، والتسلسل الزمني المنتظم، والشخصيات المشروحة سيكولوجياً”.

من جهة أخرى صيغ تعبير “جيل البيت” من قبل جاك كيرواك لصالح الشباب الأميركي الساخط خلال خمسينات القرن الماضي المادية؟ طور كيرواك افكار “التلقائية” أو “الذاتي الحركة” الى ما اسماه “النثر العفوي”، التلقائي، ليخلق ملحمة متعددة الوجه الروائي اسماها اسطورة داليوز” ضمن قالب مارسيل بروست في “البحث عن الزمن المفقود” تسمية “جيل البيت” غالباً ما تستعمل بشكل أوسع للاشارة الى العديد من كتاب اميركا لما بعد الحرب من مثل شعراء “الجبل الاسود، مدرسة نيويورك، عصر نهضة سان فرانسيسكو” وغيرها. وكان يشار من حين الى آخر الى هؤلاء الكتاب انهم “ما بعد حداثيون”. مع ان استعمال ما بعد حداثوي هي اقل استعمالاً بالاشارة الى هؤلاء الا ان تسميتهم بما بعد الحداثويين لم تزل تظهر، اسماء العديد من الكتاب المعتبرين من هذه المجموعة “جون اشبوري، ريتشارد بروتيغان، جيلبرت سورنتينو وغيرهم) تظهر عادة في لوائح كتاب ما بعد الحداثة. أحد الكتاب المحسوبين على “جيل البيت” هو وليم بوروز الذي نشر رواية “العشاء العاري” في باريس عام 1959 وفي اميركا عام 1961. وتعتبر روايته هذه من قبل البعض الرواية ما بعد الحداثوية الأولى، لأنها قائمة على التشظي، ودون قوس سرد مركزي، وهي تتوسل عناصر من أنواع أدبية معروفة من مثل القصة البوليسية وقصة الخيال العلمي. وهي مليئة بالمحاكاة الساخرة، والمفارقة واللعب الدعابي، وحسب بعض المراجع فان كلاً من الصديقين كيرواك والين غينسبيرغ حررا هذا الكتاب مستسرشدين بالصدفة.

الواقعية السحرية هي اسلوب له شعبية بين كتاب اميركا اللاتينية (ويمكن اعتباره نوعها المميز) حيث تعتبر عناصر ما فوق طبيعية على أنها دنيوية (معاملة غابرييل غارسيا ماركيز لشخصية ملائكية المظهر في قصة “رجل عجوز بأجنحة ضخمة”). مع ان هذا الاسلوب ضارب الجذور في الحكاية التقليدية فانه شكل أحد عناصر “الانفجار” بل الازدهار السردي الاميركي اللاتيني وهي حركة تقاطعت مع ما بعد الحداثة. ومن هنا فان بعض اعلام حركة “الانفجار” المحسوبين على الواقعية السحرية، من مثل ماركيز وكورتازار، يصنفون أحياناً على انهم ما بعد حداثويين. في اميركا اللاتينية التي تتكلم الاسبانية اعتبرت ما بعد الحداثة، كما يقول اوكتاميوباز، كتابة كبيرة لكن مستوردة ومتعارضة مع الانتاج الثقافي لاميركا اللاتينية.

إلى جانب بيكيت وبورخيس ثمة شخصية تقليدية أخرى هي فلاديمير نابوكوف. كما هذان الاثنان بدأ نابوكوف النشر قبل بداية ما بعد الحداثة (1926 في الروسية، 1941 في الانكليزية). مع ان روايته الاشهر “لوليتا” (1955) يمكن اعتبارها حداثوية او ما بعد حداثوية، فان اعماله اللاحقة لا سيما “النار الشاحبة” (1962) و “آدا أو الحماسة الملتهبة عام 1969 تبدوان بوضوح ما بعد حداثوية.

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

() ورد في الفقرة ما قبل الأخيرة من مقالة “عبد الرحمن البابا شاعر البشتون (“نوافذ” 5 كانون الثاني 2014) التالي: قالت الشرطة ان المسلمين زنروا اعمدة القبر بالمتفجرات” والصحيح هو ان “المسلحين زنروا القبر..” فاقتضى التصويب.

http://www.almustaqbal

من almooftah

اترك تعليقاً