وهوّنَ ما نلقى من البؤس أنّنا

بنو سفَر أو عابرون على جسر

أبو العلاء المعرّي

تأخذ الكتابة عن المثقّف.. والكاتب التنويري الكبير.. والاستثناء.. والفاعل.. الأستاذ تركي السديري، تأخذ منحًى صعباً ومعقّداً. ومكمن هذه الصعوبة أنّك أمام شخصية استثنائية بحاجة إلى دراسة سوسيولوجية عميقة تقف على مُنجز الراحل الكبير وأفكاره التقدّمية التي سبق بها مجايليه، واستمرّ في بثّها وفي أداء أدواره المتعددة، إن على مستوى الكتابة أو العمل الصحفي أو الإداري بذات التميّز والرصانة والفاعلية. فقد كان قلم تركي السديري وفكره وجهده الثقافي أنموذجاً مشرّفاً وسامقاً للمثقف الأصيل الرصين الذي لم تهزّه -كغيره- سلسلة الانتفاضات التي طالت عالمنا العربي وخلخلت بناه الفكرية والثقافية والسياسية. فقد ظلّ السديري وفيّاً لأفكاره وقناعاته، صلباً لا يداور ولا يهادن، مؤمناً بقناعة بمبادئه، وفيّاً لأفكاره وأحلامه الطموحة بغدٍ مشرق يعم نوره أرجاء الوطن. لكنّه -بالرغم من حساسية وأهمية أدواره ومهامّه الفكرية والثقافية المتعددة- لم يكن منعزلاً عن مجتمعه وقضاياه ولم يلذ بالعزلة كما يفعل بعض المثقفين ممن يضعون حولهم هالات من القداسة ويسيّجون أنفسهم بسياج النرجسية ويضعونها في أبراج عاجية. كان أستاذاً للأجيال جعل من “الرياض” وسيلة وأداة لترسيخ الثقافة كقيمة ونمط فكري وقيم لا تتجزّأ من الفرد والمجتمع، قيم تسهم في فهم الفرد لما حوله، وتساعده في الاستجابة العاطفية والتعاطي مع محيطه. آمن تركي السديري بأهمية الثقافة مبكّراً وبالتصاقها بسلوك الفرد والمجتمع، معتبراً أنّ غيابها عامل رئيس لتضعضع المجتمعات وانهيار حضاراتها وتهاوي بنائها المعرفي وتردّي قيمها الإنسانية وانتكاسة أنظمتها. كما كان -رحمه الله- يحرص بدأب لافت على أن يرسّخ الثقافة كقيمة حضارية، فكانت الثقافة حاضرة في حديثه دوماً، إذ يعدّها قيمة تسمو بالكائن البشري وتزيد من إنسانيته وتنمّي في داخله التسامح وتنبذ فيه العنف وتقيه من غوائل التغوّل والتوحّش، ولعل هذا ما يكشف لنا كيف أن ثقافة الأستاذ تركي ظلّت حيوية متجدّدة نائية تماماً عن أي شيخوخة ومواكبة لكل فكر وتقف معه على مسافة وعي واحدة.

تركي السديري -كعادة الكُتّاب الأفذاذ الكبار- ابتدع لنفسه هيكلاً كتابياً خاصاً ووضح هذا من فرادة أسلوبه، ورشاقة طرحه، وأناقة مفردته، وعمق فكره، وثبات إيقاعه، وصوته الخاص الذي كان يصبّه في عموده الأشهر”لقاء”، الذي كان يلتهمه متابعوه بحب وشغف، فقد كان من الإحكام والتقشّف الذي ينفر من الترهّل الكتابي والتشتّت ما يجعل قراءته واجباً ثقافياً وزاداً معرفياً لا يُفوّت.

ولعلّ السر يكمن في أن للراحل الكبير بصمة كتابية مميزة تتحدّث للجميع حين يكتب، وتستطيع أن تستشف روح تركي السديري من حروفه وإن لم يمهر مقالاته باسمه، وهو ما أشار إليه الروائي أوفليت بول هورغان حين قال: “إنّ الأسلوب الأدبي بمثابة بناء الخلايا، أو معدّل الأدرينالين أو النبضات”.

الحديث عن أبي عبدالله يبدأ ولا ينتهي، إن على مستوى المهنة، وإن على مستوى التأثير في تلاميذه الذين ظلّوا وسيظلّون متدثّرين بمعطفه الصحفي، تأثير يمتدّ في كل فنون الكتابة الصحفية. ولعلي لا أجد أجمل مما كتبه محمود درويش في رثاء صديقه جوزيف سماحه حين كتب: “رفع المقالة اليومية والأسبوعية إلى مستوى الأدب السياسي الرفيع، ببهاء العبارة ودهاء الحجة. لم يستطع أحد، حتى من خصومه، تجاهل ما يكتب. وما يكتب ليس بخاطرة عابرة. في ما يكتب تحريض على التفكير. وفي ما يكتب كثافة معرفة وإحالات إلى مراجع ومصادر. يومية وموسوعية. مقالته التي تحلّل الخبر والحدث صارت هي الحدث والخبر”.