كل ما قيل من تأبين ورثاء في المرحوم الأستاذ تركي بن عبدالله السديري ملك الصحافة لن يفيه حقه، فحقه كبير جداً، بل حقوق ستستمر تذكر على مدى الزمن، فخمسون عاماً من العطاء والجهد المتواصل أنتجت نجاحاً يتلو نجاحاً ليس على مستوى الوطن فقط، ولا على المنطقة وحدها، فقد شمل الوطن العربي كافة، والإسلامي، فما إن يذكر اسمه إلا ويبرز اسم (الرياض) الجريدة كرمز للصحافة الناجحة الرزينة المعبرة عن ما يهم الوطن والإنسان بعقلانية، فهي في العرف الصحيفة التي توجه وترشد في المجتمع المتنامي والذي يخطو برزانة وثبات نحو التطور والرقي حتى وصفت بأنها الصحيفة الرسمية.

رافقتُ الراحل الغالي في الرياض الجريدة في سنتها الثالثة 1387 هجرية 1967م دخلنا مطابع الرياض بالمرقب، هو في التحرير الرياضي، وأنا في التحرير الثقافي (يضمنا مكتب واحد مترين في مترين)، فَوُجِّهْنا من قبل مدير التحرير أنذاك الراحل (عبدالعزيز بن حسن العمران)، كلنا شباب من المتحمسين للعمل ونريد أن نضيف وأن نواكب حسب القدرات المتاحة، وتبعاً لأدوات العمل المتوفرة في تلك الفترة، بعد (ع .العمران) كان محمد العجيان مديراً للتحرير، وصالح الصويان، وكانا قد سبقانا في التحرير، وكانت رئاسة تحرير الرياض قد آلت إلى الأستاذ أحمد الهوشان، وفي الفترة الأولى تعلمنا ممن سبقونا كيف نتابع المواد في (التوضيب مع العاملين في هذا القسم) نحرر المواد وكل منا يأخذ مادته ويقف أمام الموضب (المنفذ حالياً) وكانت الأحْبار والرصاص وصوت المكائن الصغيرة تجارياً والكبيرة للجرائد.

استمر رفيق الدرب (تركي) يعمل بجهد ونشاط منقطع النظير وأَبْرَزَ ركائز وأسساً جديدة في الكتابة الرياضية مادةً وأسلوباً يختلف كلية عن المحررين الرياضين، وقفز إلى الواجهة وصار يشار إليه بأنه يستحق الأولوية، فأسلوبه سلس، وفكره ناصع، وآراؤه مستمدة من التجارب في هذا المجال، وأخذ يشارك في التحرير المحلي، والسياسي، ويكتب في زاوية (أوراق محرر) التي كان بعض المحررين يتناوبون عليها -نعتز بتلك الزاوية التي أظهرت كتاباً صارت لهم مكانتهم في عالم الكتابة والصحافة-، ولكن طموح (ملك الصحافة) كان أكبر، ولمس المسؤولون في الجريدة هذا الطموح الذي فرضه بعمله وثقافته، فتسلم سكرتارية التحرير التي أعطاها قيمتها بما اقترحه من أبواب، وما أضاف من محررين من الشباب حيث كان استقطاب من له توجه للصحافة يأتي ويجد من يفتح الباب أمامه، وكانت بداية الانطلاقة الحقيقية عندما اختير رئيساً للتحرير عام 1394هـ.

منذ أن تولى رئاسة التحرير، والتغير نحو الأفضل والأكمل، كان هاجسه فتوسع في التحرير وحول الجريدة من مجرد ناقلة أخبار من قسم الاستماع، إلى توظيف محررين ميدانيين يأتون بالأخبار من مصادرها، ويعملون التحقيقات الصحفية، والمقابلات، فنمت الجريدة اليومية الوحيدة في العاصمة (الرياض) وأصبحت تنافس الصحف اليومية الأخرى (المدينة/الندوة/البلاد/عكاظ) وقتها، كانت الجزيرة أسبوعية، والدعوة كماها، وبعد أن صدرت الجزيرة يومية كانت المنافسة الشريفة وكان التسابق على استقطاب المواهب والكفاءات، واستمر تركي السديري، في التطوير الذي جعل من الرياض الجريدة الأولى (مكاتب في الداخل في المدن الرئيسة من المناطق، ومراسلون في المدن الصغيرة) وكان الطموح إلى أن تُوزع الجريدة في الخارج فكَوَّن مكاتب في الخارج والعواصم العالمية (في القاهرة، بيروت، عمان، دمشق والإمارات العربية) عربياً، ومكاتب في (أميركا، باريس ولندن) مع مراسلين في دول مختلفة.

عمل على استقطاب الكتاب المتميزين بالطريقة المناسبة، فاستقطبت الرياض الكتاب المتميزين وتعاملت معهم بما يستحقونه من العناية والتقدير، وكان يوصيني كمدير تحرير ومشرف على الثقافة وحروف وأفكار بأن أعمل على أن اجتهد في التواصل مع الكتاب البارزين في الداخل والخارج، وأن استكتبهم في الرياض، وما يذكرهم لي بالاسم، ومن قد اتَّفق معهم في جولاته والتقى بهم، فمعظم من كان يلقاه في رحلاته من المفكرين الكتاب يبادرون بطلب الكتابة في (الرياض) وكلما ذهبت في مهمة خارج الوطن وذكرت له من الأسماء اللامعة قال: استكتبه.

الرياض كانت منبر الكبار (وستظل على الدرب) ومع اختلاف الظروف فمن كتب في الرياض أحبها كحب (تركي السديري) لها، فالجريدة لها وهجها وسمعتها في المعمورة، بفضل من كان يقضي معظم يومه متنقلاً من مكتبه إلى أقسامها كافة صباحاً ومساءً. حتى وهو في أسفاره كان معنا، ويحذرنا بأن تكون الهواتف مفتوحة أبداً، وأن هاتفه لا يغلق ولا يكون على الصامت، وأن من أراد الاتصال من أجل العمل عليه أن لا يتردد في أي ساعة من الأربع والعشرين.

غرس ملك الصحافة، وسقى، ورعى، وشاهد نمو غرسه وجنى من ثماره، كما جنى منه من معه، فلم يحرم المستحق، وكان النُّبل والشهامة والمواقف الإنسانية، والخصام النزيه الذي لا يتعدى التنافس الشريف، فهو لا يعادي قد يختلف ولكن على مبدأ (اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية)، بعض من اختلف معه، وجاءه مستعيناً به يلقاه وكأن لم يكن هناك أي خلاف، بل يمعن في تكريمه، فهو كبير يغضب من المقصر في عمله ويحتد ولكن لا تسمع الكلمة النابية منه تجاه أي شخص، حتى من أساؤا له قديماً وحديثاً، فهو كريم لا يحمل الحقد، وإنسان عطوف على من يستحق، يقف مع الصديق مواقف رجولية مدافعاً ومسانداً ومساعداً، وأقول ذلك عن تجربتي معه وملاصقتي له نصف قرن، يعتب ويحتد عليَّ اليوم بسبب العمل، ولكن غداً كأن لم يك شيئاً تعود المياه إلى مجاريها بنقاوتها وصفائها، وله معي ومع غيري مواقف تنم عن الشهامة والصفاء والنقاء.

وصل أعلى المراتب، رئيس تحرير، ورئيس هيئة الصحفيين، ورئيس اتحاد الصحافة الخليجية، ونال من الجوائز والتكريم ولكنه لم يتغير في تعامله مع رفاق الدرب والذين تعلموا منه الكثير وأنا ممن تعلم منه وكنت أسعد بتوجيهاته التي استفدت منها في حياتي العملية والشخصية، فهو أخي وصديقي ورفيق عمر، وهناك خصيصة مهمة في حياة الحبيب الراحل هي (العمل أولاً) في أوقاته، أما خارج العمل عندما نكون في رحلة أو إجازة منذ أن نتوجه إلى المطار فالراحل هو قائد الرحلة الذي يعمل على أن يكون الجميع في انسجام وحبور وتواشج تخيم عليه المودة والحب الصادق بين الأصدقاء، والكرم اللامحدود.

رحمة الله عليك رفيقاً سبقت، فسنلحق بك وهذه سنة الحياة، وأعزى أبناءك وبناتك، وأسرتك، وأعزي نفسي فيك، وكل من يعرف مكانتك وقدرك.