قبل انصرافه بقليل ، اكتشف شاعرنا مقدار الحرية التي يتمتع بها في هذا العالم الداخلي الواسع فأبدع . آخذا معه أسلوبه الخاص بقدر كبير من الاطمئنان ، مؤكدا به التعبير والجمال والخيال الخلاق . شاعر زاده الخيال أما الواقع يمكن أن يئول على أنه سير ذاتية صارمة الدقة أو بالغة الأمانة .
فمنذ ذبيب هذا المخلوق المسمى مجازا إنسانا على وجه الأرض ، وهو يخطو لتدوين جراحاته أحلامه أحزانه وأفراحه .. لتكون شجا للروح .وعلى نفس الشجا والشجن حيث يعلو الخيط الرفيع للصدق ، جاءنا صدقا صافيا عذبا أنيقا في معانقته الصور الشعرية الفسيحة والاحتفال بعناصر العالم صباح مساء .. ليلاً ونهاراً على حد سواء . للنتساب إلى ذلك النقع اليومي المكثف ، المأهول بالعمل والسفر وضجيج الأفكار والتآويل والتعب .. ولا شك أن شاعرنا “الحسن الكامح” قد أتقن وصف ونقل هذه التعقيدات المتراصة بحبر من السهل الممتنع .مبرزا سلاسة اللغة التي لا تمنعه من قدرة الافصاح عن كل ما ينتسب إليه أو ينتمي إلى قضايا الحياة الواسعة من حوله :

” عندما
أجلس في صمت
على كرسي أرشف قهوتي وحيداً
والأفق احمرار
والندى يحاكي المدى شوقا جديدا
أركب حلمي يقينا
وأتيه في الكون بعيدا بعيداً ”

بعيداً عن المزاح ، ومن خلال هذا التنوال الشعري المليء بالرموز والتيه والانصراف .. يبدو كما لو كان الحلم الذي أتيح لهذا الشعر كي يكتمل حضوره في صمت ، أيقن بكثير من كل شروخ الوحدة على كرسي آيل للزوال والبوار .. وإن كانت الكتابة الشعرية يقيناً أنها أبدية سرمدية خالدة فإنه لا شيء أصعب من ممارستها ، ولا شيء أروع منها أيضا . إنها نار بلا دخان تحرق القلب والعقل والأنامل التي تكتب في نزق من أوراق . بل إنها بلسم شاف من كل داء . فاضحة حد الخنق هي شطحاتها الفنتازية الضاربة في جذور الواقع الداخلي للذات :

” أكتب ما يكتبني
ولا أكتفي بما يعريني
وإن كنت عارياً
منذ الولادة الأولى و لا أخفيه
هو فعل الكتابة
يعريك من كل ما ملكت يداك
فلا تخجل وإن كنت تنفيه
هو فعل الكتابة
يجردك من كل ما كسبت ذاتك
فلا تيأس وإن كنت في قرارة نفسك تلغيه ”

هذا المقطع المتحدث عن فعل الكتابة ، تتعدد تجلياته فيغدو الفعل متكررا مؤكداً به شاعرنا ” الحسن الكامح ” على أنه لا يكتفي بوصف عري الكتابة و الافتتان بتشوهاتها المثيرة أو بالاكتفاء بطرق بابها بكل ما ملكت يده من خيال واستعارات ومجازات .. بل يكسر بابها معلنا اهتزازات شعرية مدوية عابرة كل الشرفات والغرف حتى المنسية منها التي أغفلها بعض الشعراء :

” يا طارقي لا تتمهل قليلاً
ولا تقف
خلف الباب قاطع الأنفاس
مدمر الاحساس
لا أنت معي
ولا أنت بعيدا عني
أدخل
ولا تتردد في مكانك
لك مني قلبا وعرشا ولا نعشا ”

إنها دعوة صادقة من شاعر مرهف الاحساس ، للدخول إلى عوالمه المزدانة بالورود والوعود .. عوالم ليست لأحد .. عابرة كل حنايا المدن الأنيقة من أكادير إلى مكناس عبوراً بمراكش الحمراء .. فندرك أن الترحال راسخ كأصل الحب في قلب شاعرنا .. وإن كان السفر حياة أكثر وموت أقل .. نتمنى لشاعرنا ” الحسن الكامح ” حياة كلها سعادة و نجاح وتألق على درب القصيدة الشاقة .

الإعلامي عبدالعاطي الخازن

اترك تعليقاً