بوب ديلان (من المصدر)

ترجمة: أحمد عثمان

ديلان.. قطار بطيء قادم

صاحب آداب نوبل.. عالم ضائع لأجل العالم

«ما كل هذا الهراء؟»، هكذا تساءل غرايل ماركوس في مقاله النقدي، المنشور العام 1970، والذي كرّسه كلياً للكتابة عن ألبوم بوب ديلان «صورة ذاتية». سؤال، مهم بالتأكيد، بيد أنه يحجب بقية النّص، الذي تحدث ماركوس في متنه عن موهبة ديلان، وعن مكانته في الموسيقى الأمريكية، وتأكيده أن من الضروري أن يبتعد ديلان عن الانجراف وراء تيار «السوق»، بعد هذا الألبوم المشؤوم، وبما أنه سيظل على الدوام في أعين الجمهور ذلك الرجل الواقف خلف «وقتما تغير كل شيء»، التي استرجعتها فرقة «البيتش بويز» في العام 1965، في أغنيتها الشهيرة كذلك «بيتش بويز بارتي!»، «الطريق السريع 61 إعادة النظر»، «شقراء في شقراء» و«أشرطة الطابق السفلي»، التي كانت تتداول بين الناس بقوة. والمؤسف، أن ديلان، الذي رجع إلى السوق ثانية في العام 1975، مع ألبومه «الدم على الطرق»، تم النظر إليه على أنه ينتمي إلى ألبوماته الأخرى، الراجعة إلى مرحلة الستينيات لأسباب عدة. بينما توقف آدم وست عن القيام بدور «باتمان» منذ سنوات، وقام بدور الشخصية القاسية في فيلم فرانسيس ليون («الفتاة التي تعرف أكثر من اللازم»، 1969)، فإننا نجد أن بوب ديلان هجر من ناحيته اللاّمبالاة، والانتحال اللذين وسما أعماله الأولى لكي يحتفي بإبداعه الخاص.

الترنح وسط الرياح:

 

في العام 1962، استلهم غناء انغيليا، لكي يبدع «الترنح وسط الرياح»، أولى أغنياته، ضمن سلسلة من الأغاني التي ستمس روح الكثيرين، وستحمله إلى مصاف العظماء. تحت نفس الشكل سيبدع «المطر الشديد سوف يهطل»، «سادة الحرب»، «دقات الحرية». 

لقد وجد ديلان إلهامه في الأعمال القديمة التي تضمنتها صفحات أنطولوجيا هاري سميث الشهيرة، فقام بتطوير الخطاب، وأخذ يغترف من الفلولكلور الأيرلندي، الأسود أو الأمريكي ببساطة، لكي يغني الحقوق المدنية، السلمية، الحب، من دون أن يفكر في أي منها لمرتين. مضى إلى موسيقى البلوز الكهربائية بأغنيته المذهلة «مزرعة ماغي»، ثم إلى الروك آند رول مع «مثل الرولينغ ستونز». واستلهم (آرتور) رامبو عندما كتب «رجل الطبلة»، والكتاب المقدس عندما كتب «على طول برج المراقبة» (استلهمها فيما بعد هندريكس حينما حاكى التأويل). لحن أغنية «عينان حزينتان، لسيدة الأراضي المنخفضة»، وهي باقة من الاستعارات المستلهمة من أجمل قصائد الشعر، وذلك للكتابة عن زوجته. واتجه إلى موسيقى «الكونتري» مع «السيدة السيدة»، حيا الإسكيمو، مع أغنية «The mighty Quinn»، الهنود مع «كوخ مستدير الشكل»، (المغني الفرنسي) جيلبير بيكو (1927-2001) مع «دعه، كن أنا». وهكذا أضرم بوب ديلان النار في كل مكان بعقل متفتح من نسيج خاص.

قوقعة:

وعلى حين غرة، أنسى الإفلاس الشاعر الغنائي أن ينظر حوله، وتقوقع حول نفسه. وظهر كشخصية متكبرة في «الرولينغ ثاندر ريفيو»، قام بدور في فيلم سيء مدته أربع ساعات، كتب وعزف مع اريك كلابتون. وصاح في وجه طليقته «رياح حمقاء»، باع أفكاره مع «قطار بطيء قادم»، ووضع مركبات صوتية كبيرة في كل أغنية من أغاني ألبومه «إمبراطورية هزلية» (1985). وتراكمت أحداث مخيبة للآمال، لأن المغني بوب ديلان سعى إلى أن يعزف كما الشاب، هجر عائلته وانطلق إلى الشارع. وأيضاً، لأن صرعة السبعينيات، قبل المخدرات والديسكو، كانت في البداية الطلاق. بوب ديلان عبقري وقتما لا يفكر في السوق، وقتما يفكر في حياته، وقتما يكتب أشياء جميلة مستلهمة من التفاصيل القديمة التي يعتبر أفضل من حافظ عليها. وقد ظل ديلان واقفاً في مكانه، كما الموسيقي الذي هجر مستودع «صورة ذاتية» لأجل هذه الحماقات، ولم يرجع إلى الفلكلور إلا في بدايات التسعينيات، حينما كان على وشك الخروج من الذاكرة الجمعية، وبعد أن وجد شبابه المستعاد في عزلة حققها برحلاته التي لا تعد ولا تحصى حول العالم.

أغاني الميلاد:

 

اتجه إلى إصدار ألبوم عن أغاني عيد الميلاد، لكي يثير الاعتقاد بأنه عاد إلى صوابه، لكن نجد أنه، في الحقيقة، ومنذ عشرين عاماً، أنشد يقلد نعيق الغراب بكفاءة عالية. وبقفزة واحدة نجح ديلان في تحطيم التقاليد ومحاكاة النزعات الطليعية بسخرية في آن معاً. 

مع ذلك، كانت التقاليد والنزعات الطليعية نفس الشيء. في «النزعة الطليعية» avant-garde، وهناك كلمتان محافظتان، لئلا نكتب «رجعيتان»، ألا وهما: «قبل» avant و«حفظ» garde. موسيقا «التكنو» ومؤسسة موسيقا «الراب»، وهما مجالان لم يقترب ديلان منهما، لأن الصاعقة موجودة، بصورة أساسية، في الطبيعة، ومن خلال المصادفة السريعة التي لا يمكن تجاهلها، تمكن الإنسان من إيجاد الكهرباء. وبالاحتكاك، فكر، تذكر، وانتهى كغراب جاثم على شجرة، وقتما كان باتمان ينطلق بحثاً عن «الرجل البطريق».

بوب ديلان، خلال مرحلته السمعية، انتهى إلى أن جعل التقاليد مقبولة لدى أذن عشاق «الروك آند رول» الكهربائي. وخلال مرحلته السمعية الثانية أمسك بكل ما تم النظر إليه على اعتبار كونه طلائعياً في عصره، وأدرجه في نطاق التقاليد القائمة. وفي عام 1970، كبر ديلان، وحقق ألبومين «صورة ذاتية» و«صباح جديد»، الذي صنف غرايل ماركوس أحدهما بقسوة على أنه «هراء». ودافع ديلان عن نفسه بالقول إنه أصدر هذا الألبوم «صورة ذاتية» لكي يخرج من معطف «المتحدث الرسمي عن الجيل» الذي يثقل كاهله. غير أن قانون السوق كان أقوى منه، بل وأقوى من الجمهور أيضاً. مقولة سبايدرمان «سلطة عظمى تتضمن مسئوليات كبيرة»، تمكن ديلان، بكاريزميته وتوفيقيته، من حمل قيم جميلة، لكي يصل إلى مبتغاه، ويمهد طريقاً ابتكارياً على مر التاريخ، دون أي قطيعة مع الماضي.

هاجس التمزقات:

أخذ المجتمع يتخلص من تاريخه، كما يتخلص من أجهزة النقال القيمة بإلقائها في سلة القمامة. ولم يقم آدم ويست بدور باتمان في العام 1990، لقد فضل تيم بورتون منحه الممثل ميكائيل كيتون. كل ممثلي الثقافة القديمة تبخروا. وهجر بوب ديلان رسالته مبكراً للغاية، واستعادها متأخراً. لقد هرم جيل الستينيات. ورفض هذا الجيل النماذج. كما رفض إعطاء الدروس إلى الأجيال اللاحقة. مسكوناً بهاجس التمزقات، ولم يترك حقلاً خرباً واحداً.

كان دوكاليون وبيرها في حاجة إلى دحرجة الأحجار لكي يعيدا بناء الإنسانية. والتقط بوب ديلان واحداً منها، وجعل منه موضوعاً لإحدى أفضل أغانيه التي عرفت نجاحاً كبيراً بفضله. «الحجر المتدحرج» ذات مفقودة، عالم ضائع في عالم كبير ضائع بدوره، غارق تحت طوفان دائم من المعلومات المتناقضة والاستغلالات المستمرة. حجر يتدحرج بكل حرية، من دون وجهة، من دون بيت. ومع ذلك، الحجر الذي يتدحرج لا يتراكم على حجر آخر. لتخزين مقتنياته، من اللازم أن يتوفر على سقف. حينما يكون للمرء عائلتان، أمر معقد، على الأقل أكثر من سقف. وثقل المعاناة خاصية الثراء. وفي هذا الصدد، اختار ديلان الصعوبة بالعودة عن الطريق.

باختصار، أصبح كل شيء معقداً، حتى الحلم، الأسطورة، الفكر، الحقيقة، التحرر المستحيل من المستقبل، وبوب ديلان الذي يستفيد جيداً من الاعتذار: «أعيدوا إليّ باتمان خاصتي، جيل الستينيات خاصتي، التويست خاصتي، و(فيلم) ماري بوبينز. ثم، لا تعيدوا شيئاً إلي، لنتخلص من كل هذا. لنخلق حاضنتي. أراها بحقيبة بلا قعر».

حوار مع كريستوف ليبولد

كريستوف ليبولد محاضر بجامعة ستراسبورغ، متخصص في الأدب الأمريكي. كرس أطروحته عن الدكتوراه حول الشاعر، الروائي، المغني والملحن الكندي ليونارد كوهين وبوب ديلان، أيقونة الفولك والحائز مؤخراً جائزة نوبل للآداب. مؤلف كتاب (ليونارد كوهي: الرجل الذي شهد هبوط الملائكة) مطبوعات كاميون بلانك، 2013. في هذا الحوار القصير للغاية بقلم (كلير غييو) يحلل سريعاً مضمون نتاج بوب ديلان الغنائي – الشعري.

**هل أصابتك الدهشة من حصول موسيقي على جائزة نوبل للآداب؟

* انتظرت أن تمنح الجائزة لكاتب أغانٍ، وهذا ليس إلا أمراً عادلاً. هذه الجائزة تحتفي بالعودة إلى أصول الشعر، خلال عقود من الزمان، كان الشعر يغنى بمصاحبة الموسيقا. كانوا من الممكن أن يختاروا ليونارد كوهين. مع هذه الجائزة النوبلية، تم الاعتراف بجيل كامل من الشعراء الموسيقيين الذين سعوا إلى التوجه إلى جمهور عريض، مقتفين أثر جيل البيت، الذي «جهروا» بنصوصهم علانية. لقد قال لو ريد (1942-2013)– مغني روك أمريكي – «أنا دانتي بمعية غيتار».

** ما الذي تعنيه، بالنسبة إليك، الجائزة؟

* بوب ديلان يمثل جزءاً من جيل كاتبي الأغاني، الذي أعاد ابتكار الشاعر الشفاهي المرتبط بالجمهور. أيضاً، أعاد ابتكار صورة الشاعر الغنائي، التي تجسد «كل» أمريكا، على غرار والت ويتمان. لم يكف يوماً عن «إعادة ابتكار» نفسه على إيقاع تحولات البلاد: في عام 1963، كان مغنياً تحريضياً، ثم، كانت مرحلة ما بعد جيل البيت. هناك «ديلان موسيقا الكونتري» و«ديلان المسيحي» في نهاية السبعينيات. قال ليونارد كوهين عن بوب ديلان: «إنه بيكاسو الأغنية»، مع كل مراحله المختلفة. هذه التغيرات سمحت لديلان بتحقيق أركيولوجيا وتحليل نفسي لبلده في آن واحد. هذا التقليد الغنائي تعزز بفعل أن ديلان كان منذ بدايته حالة تنبؤية: على الرغم من أنه لم يتعد الخامسة والعشرين من عمره، كان «يستجوب» بلاده، كان يحذرها – كما في أغنيته «في الوقت الذي تتغير» حيث أعلن «الطوفان». كان يستلهم نصوصه من التنبؤات الكتابية: ديلان متنبئ بمعية غيتار! هذه المكانة التي يضطلع بها منذ البداية، وسمت آلن غينسبرغ بقوة. عمل ديلان على تغيير الوضع الأيديولوجي، بيد أنه احتفظ على الدوام بهذا الوضع التنبؤي، فن مسائلة التنبؤ. نحن إزاء شخص مقتنع برصانة كلامه.

** من أي تقاليد أدبية وموسيقية اغترف بوب ديلان كلامه؟

* انطلق ديلان من شكل بسيط للغاية – أغاني الفولك والبلوز خلال العشرينيات والثلاثينيات، رفقة أسماء مشهورة مثل روبرت جونسون (بلوز) وودي غوثري (فولك)، وأخذ يستعمل هذه الكتابة المختصرة ويلحقها بتأثيرات أخرى. حينما وصل إلى نيويورك، إلى أوساط «الفولك الجديد»، رفض الوقوع في تقديس الأصالة ساعياً إلى إدماج أشكال شعرية أخرى، على وجه الخصوص (آرتور) رامبو والشعراء الرمزيين، التي استعار منها صوراً «متجاوزة للواقع»، وكذا نصوص «جيل البيت»، (جاك) كيرواك و(آلن) غينسبرغ، في نصوصه. ابتكر كيروك «البوب بروسيدي» Bop prosody، هذا الفيض المتلاحق من الكتابة المستلهمة من موسيقا الجاز: نكتب من دون تصويب، من دون أن ندع «التركيب» يعوقنا. طبق ديلان هذا التكنيك في كتابته، حتى نهاية الستينيات، وكتب بحركة واحدة، في المقعد الخلفي لسيارة أجرة… من «جيل البيت»، أخذ أيضاً موضوع الرحلة كظرف أنطولوجي- «نحن جميعاً من مستوقفي السيارات»، غير أنه موضوع يوجد أيضاً في «البلوز». ديلان مؤلف يغير توجهه كثيراً. بدءاً من الثمانينيات، اتجه ديلان إلى نمط آخر من الكتابة، راح يقتبس كلامه من الأوساط الشعبية، من مقاطع من الروايات والنصوص المختلفة، محولاً كل ما سبق إلى أغانٍ. متخصص في «أوفيد، بروفيسور في جامعة هارفارد»، وجد 27 مقولة مستعارة من «مراثي أوفيد» في أحد ألبوماته! ديلان مثقف، قرأ أيضاً ثوسيديديس، بيد أنه مثقف على الطريقة الأمريكية، لا يكف عن إبداع «الكولاج».

………………………………………..

(*)Nicolas Ernandez، Bob Dylan، un monde perdu pour le monde، Agora Vox، mercredi 13 avril 2016.

(**) Claire Guillot، LE MONDE | 13.10.2016

بيكاسو الأغنية

بوب ديلان يمثل جزءاً من جيل كاتبي الأغاني، الذي أعاد ابتكار الشاعر الشفاهي المرتبط بالجمهور. أيضاً، أعاد ابتكار صورة الشاعر الغنائي، التي تجسد «كل» أميركا، على غرار والت ويتمان. لم يكف يوماً من «إعادة ابتكار» نفسه على إيقاع تحولات البلاد: في عام 1963، كان مغنياً تحريضياً، ثم، كانت مرحلة ما بعد جيل البيت. هناك «ديلان موسيقى الكونتري» و«ديلان المسيحي» في نهاية السبعينيات. قال ليونارد كوهين عن بوب ديلان: «إنه بيكاسو الأغنية»، مع كل مراحله المختلفة.

كريستوف ليبولد

من almooftah

اترك تعليقاً